dimanche 29 mars 2015

مـن ألـغـاز الإسـتـمـراريـة الأسـلـوبـيـة في الـفـنّ الـعـراقي


                             

 الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري

تـعـودّت مـنـذ مـطـلـع شـبـابي، مـثـل كـلّ زمـلائي مـن  مـحـبي الـفـنّ، عـلى رؤيـة صـور رسـوم الـواسـطي لـمـقـامـات الـحـريـري. وقـد تـأمّـلـت عـشـرات الـمـرّات رسـمـه عـلى الـمـقـامـة الـثّـانـيـة والـثّـلاثـيـن والّـذي يـصـور امـرأة تـقـود جـمـالاً، ولأقـل أنـني تـأمّـلـت صـورة الـرّسـم فـالأصـل في مـخـطـوطـة تـحـتـفـظ بـهـا الـمـكـتـبـة الـوطـنـيـة في بـاريـس، (الـمـخـطـوطـات الـعـربـيـة رقـم 5847، ظـهـر ورقـة 101).




وعـنـدمـا زرت الـمـتـحـف الـبـريـطـاني في لـنـدن لأوّل مـرّة بـعـد ذلـك بـسـنـوات قـلـيـلـة، لـم أنـتـبـه إلى الـشّـبـه بـيـن هـذا الـرّسـم وبـيـن مـنـحـوتـة جـداريـة (قـلـيـلـة الـبـروز) مـن قـصـر الـمـلـك الآشـوري تـغـلـت بـلـصـر الـثّـالـث (745 ــ 727 قـبـل الـمـيـلاد)، كـان الـمـنـقّـب الإنـكـلـيـزي  هـنـري لَـيـارد Henry Layard   قـد وجـدهـا في الـقـصـرالـوسـطـاني مـن نـمـرود (مـوقـع كـلـح الـقـديـمـة، حـوالي 30 كـلـم. جـنـوب الـمـوصـل)، وتـصـوّر بـدويـة تـقـود جـمـالاً، ويـحـتـفـظ بـهـا الـمـتـحـف الـبـريـطـاني تـحـت رقـم  118901.




ثـمّ وجـدت صـورة لـهـذه الـمـنـحـوتـة بـعـد ذلـك في كـتـاب عـن فـنـون بلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن. وعـنـدمـا تـفـحـصـتـهـا، تـذكّـرت رسـم الـواسـطي. وعـنـدمـا قـارنـت الـصّـورتـيـن دهـشـت : فـرغـم أنّ بـدويـة الـنّـحـات الآشـوري تـسـبـق الـجـمـال ولا تـتـبـعـهـا، وهي أكـثـر نـحـافـة مـن امـرأة الـواسـطي فـلا يـمـكـنـنـا إلّا أن نـلاحـظ أنّ رسـم الـيـد الـيـسـرى (تـنـزلـهـا امـرأة الـواسـطي وتـرفـعـهـا بـدويـة الـنّـحـات الآشـوري) هـو نـفـسـه عـنـد الإثـنـيـن.






ولـكـنّ الّـذي أذهـلـني هـو الـجـمـل الّـذي يـقـضـم الـعـشـب (خـلـف بـدويـة الـنّـحـات الآشـوري مـبـاشـرة، وعـلى يـمـيـن امـرأة الـواسـطي)، فـهـو هـو نـفـسـه في الـصّـورتـيـن.





وأذكّـر الـقـرّاء هـنـا أنّ يـحـيى بـن مـحـمـود الـواســطي نـفّـذ رسـومـه عـلى مـقـامـات الـحـريـري في بـغـداد عـام 1237 بـعـد الـمـيـلاد، أي بـعـد حـوالي ألـفي سـنـة عـلى تـنـفـيـذ الـنّـحـات الآشـوري لـمـنـحـوتـتـه في الـقـرن الـثّـامـن قـبـل الـمـيـلاد !

ولا يـمـكـنـنـا أن نـتّـهـم الـواسـطي بـالـنّـقـل عـن الـنّـحـات الآشـوري، أو حـتّى بـالـتّـأثـر بـه، فـلـيـس هـنـاك مـن شـكّ في أنّـه لـم يـر الـمـنـحـوتـة، بـل لـم يـتـصـور إمـكـانـيـة وجـودهـا رغـم أنّـهـا لـم تـكـن عـلى بـعـد أكـثـر مـن  400 كـلـم. عـنـه. ولـكـنّ عـدّة أمـتـار مـن الـتّـراب كـانـت قـد تـراكـمـت عـلـيـهـا خـلال الـ 20 قـرنـاً الّـتي كـانـت تـفـصـل بـيـنـهـمـا. ولـم يـجـد هـنـري لَـيـارد الـمـنـحـوتـة في مـنـتـصـف الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر إلّا بـعـد أن أزاح أطـنـانـاً مـن الـتّـراب عـن جـزء مـن  الـقـصـر الّـتي كـانـت فـيـه في نـمـرود (مـوقـع مـديـنـة كـلـح الـقـديـمـة) جـنـوب الـمـوصـل.

ألـيـسـت هـذه الإسـتـمـراريـة بـيـن أسـلـوبَي فـنـانَـيـن تـفـصـل بـيـنـهـمـا ألـفـا سـنـة لـغـزاً مـذهـلاً ؟  

1 commentaire:

  1. تأمل عميق ومذهل في عملين فنيين تفصل بينهما ألفا سنة.

    RépondreSupprimer