lundi 27 mars 2017

سـعـاد الـعـطّـار والـجـمـركي روسـو



                                       




الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري

عـنـدمـا رأيـت صـورة لـلـوحـة سـعـاد الـعـطّـار "جـنّـة بـالأخـضـر Paradise in green" (1) لأوّل مـرّة، انـبـثـقـت مـن ذاكـرتي مـبـاشـرة لـوحـة الـجـمـركي هـنـري روسـو "الـحـاويـة / سـاحـرة الـثّـعـابـيـن"، ولـوحـات أخـرى لـه مـلأهـا بـأدغـال تـعـجّ بـنـبـاتـات اسـتـوائـيـة تـمـتـدّ أوراقـهـا الـمـتـنـوّعـة الأشـكـال وتـتـشـابـك مـتـداخـلـة.
 وتـسـاءلـت هـل رأت سـعـاد الـعـطّـار لـوحـات الـجـمـركي الّـذي تـوفي في بـاريـس 30 سـنـة قـبـل مـيـلادهـا وعـلى بـعـد حـوالي أربـعـة آلاف كـيـلـومـتـر مـن بـغـداد !

ولـيـس قـصـدي مـن كـتـابـة هـذا الـعـرض الـسّـريـع أن ألـمّـح إلى تـأثـر وتـأثـيـر بـيـن سـعـاد الـعـطـار والـجـمـركي روسـو، وإنّـمـا إلى مـا تـركـه هـذا الـتّـشـابـه بـيـنـهـمـا في نـفـسي مـن دهـشـة : كـيـف يـقـرّب الـفـنّ بـيـن إنـسـانـيـن ولـدا في مـكـانـيـن مـتـبـاعـديـن مـكـانـيـاً وعـاشـا في فـتـرتـيـن مـتـبـاعـدتـيـن زمـنـيـاً.

سـعـاد الـعـطّـار :

وعـنـدمـا بـدأت أبـحـث عـن مـعـلـومـات عـن سـعـاد الـعـطّـار الّـتي لـم أكـن أعـرف عـنـهـا إلّا الـقـلـيـل في ذلـك الـحـيـن، وجـدت أنّـهـا ولـدت سـنـة 1940، إذا مـا تـقـبّـلـنـا أنّـهـا كـانـت في الـسّـادسـة عـشـرة مـن عـمـرهـا عـنـدمـا شـاركـت في مـعـرض نـادي الـمـنـصـور الأوّل عـام 1956. (2)
ويـبـدو أنّـهـا تـزوّجـت في سـنّ مـبـكـرة، وربّـمـا في ذلـك الـعـام، 1956، فـنـحـن لا نـجـد اسـمـهـا في دلـيـل مـعـرض نـادي الـمـنـصـور الـثّـاني عـام 1957، وأنّـهـا صـاحـبـت زوجـهـا إلى الـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة ودرسـت في جـامـعـة كـالـيـفـورنـيـا.
ويـبـدو أنّـهـا حـصـلـت عـلى دبـلـوم رسـم عـام 1960، أي عـنـدمـا كـانـت في الـعـشـريـن مـن عـمـرهـا. ولـم أجـد في أي عـام عـادت إلى بـغـداد، ولـكـنّي وجـدت أنّـهـا أكـمـلـت دراسـتـهـا في كـلّـيـة الـبـنـات عـام 1964، وكـانـت مـن بـيـن طـالـبـات الـفـنّـان خـالـد الـجـادر. وانـتـمـت إلى جـمـاعـة الـرّوّاد وشـاركـت في مـعـارضـهـا، كـمـا شـاركـت في مـعـارض جـمـعـيـة الـتّـشـكـيـلـيـيـن الـعـراقـيـيـن الّـتي كـانـت عـضـوة فـيـهـا.
وشـاركـت سـعـاد الـعـطّـار في مـعـارض فـنّـيـة جـمـاعـيـة، وأقـامـت مـعـارض شـخـصـيـة في بـغـداد وبـيـروت. وقـد نـظّـمـت أوّل مـعـارضـهـا عـام  1963 (أو هـل كـان في 1964 ؟)، وهـو الـمـشـهـور بـأنّـه كـان أوّل مـعـرض شـخـصي تـقـيـمـه فـنّـانـة عـراقـيـة.
وبـعـد أن تـركـت بـغـداد في 1976، واخـتـارت لـنـدن لـتـقـيـم فـيـهـا، درسـت سـعـاد الـعـطّـار فـنـون الـحـفـر في كـلـيـة ويـمـبـلـدن لـلـفـنـون wimbledon college of art .
وقـد بـدأت في لـنـدن "فـتـرة" فـنّـيـة مـخـتـلـفـة عـن فـتـرتـهـا الأولى.

ويـبـدو أنّـهـا رسـمـت لـوحـاتـهـا الّـتي تـهـمّـني هـنـا في ثـمـانـيـنـات الـقـرن الـعـشـريـن وتـسـعـيـنـاتـه. 

والـصّـعـوبـات الّـتي تـواجـهـنـا عـنـدمـا نـودّ الـتّـعـمـق في مـعـرفـة فـنّـان مـا مـن فـنـانـيـنـا هي قـلّـة الـمـراجـع الـمـتـوفـرة والـدّراسـات الّـتي يـسـهـل الـحـصـول عـلـيـهـا. ونـادراً مـا نـجـد تـحـلـيـلاً كـامـلاً ومـتـعـمّـقـاً لأعـمـال الـفـنّـان يـتـابـع مـسـيـرتـه الـفـنّـيـة مـرحـلـة بـعـد مـرحـلـة ولـوحـة بـعـد لـوحـة. وبـيـنـمـا يـسـهـل عـلى الـدّارس أن يـجـد صـور مـنـشـورة لـكـلّ لـوحـات هـنـري روسـو وسـنـوات تـنـفـيـذهـا والـمـتـاحـف أو الـمـجـمـوعـات الـشّـخـصـيـة الّـتي تـحـتـفـظ بـهـا، فـهـو يـلاقي صـعـوبـات في إيـجـاد صـور لـلـوحـات سـعـاد الـعـطّـار الّـتي لا نـعـرف سـنـوات رسـم كـثـيـر مـنـهـا.

 "الـجـمـركـجي" روسـو « Le douanier » Henri ROUSSEAU  :

ولـد هـنـري روسـو في مـديـنـة صـغـيـرة في شـمـال غـرب فـرنـسـا سـنـة 1844. ودرس فـيـهـا الـحـقـوق قـبـل أن يـغـادرهـا لـيـعـمـل في بـاريـس.
وفي بـاريـس وجـد وظـيـفـة مـتـواضـعـة في مـخـفـر عـلى أحـد مـداخـلـهـا تـجـبى فـيـه الـمـكـوس عـلى الـبـضـائـع والـسّـلـع الّـتي يـجـلـبـهـا الـتّـجّـار والـفـلاحـون لـيـبـيـعـوهـا في الـمـديـنـة. ولـهـذا فـإنّ نـعـتـه        بـ "الـجـمـركي" مـبـالـغ فـيـه مـع أنّـه عـرف بـه.
ولأنّ وظـيـفـتـه كـانـت تـتـرك لـهـا أوقـات فـراغ طـويـلـة، فـقـد شـرع هـنـري روسـو بـمـمـارسـة الـرّسـم. وعـلّـم نـفـسـه بـنـفـسـه حـتّى تـوصّـل إلى رسـم لـوحـات زيـتـيـة واسـعـة الـمـقـايـيـس. ومـظـهـر هـذه الـلـوحـات "بـدائي" عـلـيـه مـسـحـة سـذاجـة طـفـولـيـة كـمـا أراد الـجـمـركي أن يـضـفـيـه عـلـيـهـا. ومـع ذلـك نـكـتـشـف عـنـدمـا نـتـوقـف قـلـيـلاً لـنـتـأمّـلـهـا ونـتـفـحّـصـهـا عـن كـثـب تـقـنـيـة مـعـقّـدة خـاصـة بـه   لا تـقـلّـد الـتّـقـنـيـات الأكـاديـمـيـة الـكـلاسـيـكـيـة، ولـكـنّـهـا بـعـيـدة جـدّاً عـن الـتّـلـقـائـيـة الّـتي ظـهـرت لـنـا أوّل وهـلـة.
وكـان الـجـمـركي روسـو في الـثّـامـنـة والـعـشـريـن مـن عـمـره في 1872 عـنـدمـا بـدأ يـعـرض أعـمـالـه الـفـنّـيـة.

لـوحـات الأدغـال عـنـد الـجـمـركي روسـو وسـعـاد الـعـطّـار :

رسـم هـنـري روسـو بـعـض الـلـوحـات الّـتي ظـهـرت فـيـهـا مـشـاهـد الأدغـال مـثـل لـوحـتـه "مـفـاجـأة  Surprise" الّـتي عـرضـهـا في بـاريـس عـام 1891، والّـتي نـرى فـيـهـا نـمـراً يـتـهـيـأ لـلـهـجـوم في وسـط غـابـة تـرتـفـع أوراق نـبـاتـاتـهـا الـكـثّـة وتـتـشـابـك أغـصـان أشـجـارهـا الـمـتـطـايـرة في مـهـبّ الـرّيـح. ونـلاحـظ أنّـه رسـمـهـا كـمـا لـو كـانـت سـجـادة جـداريـة (مـن تـلـك الّـتي كـانـت تـحـاك لـتـعـلّـق عـلى جـدران الـقـصـور كـسـتـائـر تـزيـنـيـة، والّـتي كـانـت تـدعى بـ "ألـف زهـرة") مـثـل الّـتي كـان قـد رآهـا في مـتـحـف كـلـوني في بـاريـس :

                                                    
أو لـوحـتـه "مـوعـد في الـغـابـة  Rendez-vous dans la forêt" الّـتي رسـمـهـا في 1889،
ولـكـنّ مـعـظـم لـوحـاتـه "الأدغـالـيـة" نـفّـذت بـيـن 1904 و 1910. 

وقـد وجـد الـدارسـون لـفـنّـه 26 لـوحـة عـن مـواضـيـع لـهـا عـلاقـة بـالأدغـال رسـمـهـا في تـلـك الـسّـنـوات الـسّـتّ. ونـلاحـظ إذا مـا تـأمّـلـنـا هـذه الـلـوحـات زمـنـيـاً أنّ مـواضـيـعـهـا الـخـيـالـيـة "الـعـجـائـبـيـة" اشـتـدت قـوّتـهـا وأنّ طـريـقـة رسـمـهـا تـحـسّـنـت نـوعـيـتـهـا شـيـئـاً فـشـيـئـاً. 

وقـد جـاءتـه الـرّغـبـة في رسـمـهـا مـن الـسّـجـاد الـجـداري كـمـا سـبـق أن ذكـرنـا، وكـذلـك مـن لـوحـات فـنـاني الـحـركـة الـرّومـانـطـيـقـيـة مـثـل أوجـيـن دولا كـروا الّـذيـن وجـدوا في أرجـاء الـمـسـتـعـمـرات الـفـرنـسـيـة في أفـريـقـيـا مـواضـيـع فـضـول خـيـالي "عـجـائـبي" : الـطّـبـيـعـة الـعـذراء الّـتي تـصـوروهـا بـدائـيـة والـمـلـيـئـة بـحـيـوانـات وحـشـيـة مـقـارنـة بـالـمـدن الـصّـنـاعـيـة الـمـسـوّدة الـدّخـان بـمـلابـس بـرجـوازيـيـهـا الـغـامـقـة ومـلابـس عـمـالـهـا الـمـلـطّـخـة بـالـسّـخـام، والـنّـاس "الـمـتـوحـشـيـن" مـقـارنـة بـمـعـاصـريـهـم "الـمـتـمـدنـيـن"، وعـادات الـنّـاس الّـتي ظـهـرت لـهـم هـمـجـيـة لأنّـهـم لـم يـفـهـمـوهـا ولـم يـدركـوا مـغـزاهـا.

ولأنّ الـجـمـركـجي لـم يـغـادر فـرنـسـا مـطـلـقـاً في حـيـاتـه فـقـد وجـد أدغـالـه في وسـط بـاريـس، في الـقـصـور الـبـلـوّريـة الـشّـديـدة الـسّـعـة والـعـلـو، الـحـديـديـة الـهـيـاكـل، الـمـغـطـاة بـالـزّجـاج، والـمـكـيـفـة الـهـواء الّـتي شـيّـدت في حـديـقـة الـنّـبـاتـات لـتـزرع في داخـلـهـا نـبـاتـات اسـتـوائـيـة كـثـيـرة الأنـواع والأصـنـاف. وكـان يـقـضي فـيـهـا سـاعـات طـويـلـة يـتـأمّـل أوراق نـبـاتـاتـهـا الـمـتـنـوّعـة الأشـكـال وأزهـارهـا الـمـذهـلـة الألـوان.
وقـد كـتـب الـجـمـركـجي لأحـد أصـدقـائـه : "لا أدري هـل تـشـعـر بـمـا أشـعـر بـه، ولـكـنّي عـنـدمـا أدخـل هـذه الـقـصـور الـبـلّـوريـة وأرى الـنّـبـاتـات الـعـجـيـبـة الّـتي جـلـبـت مـن بـلاد غـريـبـة أحـس كـمـا لـو أنـني أدخـل في حـلـم ... أحـس بـأنّي شـخـص آخـر".

وقـد بـدأت هـذه الـفـتـرة "الأدغـالـيـة الإسـتـوائـيـة" بـلـوحـتـه : الأسـد الـجـائـع يـهـاجـم ظـبـيـاً                  Le lion ayant faim se jette sur l’antilope ، الّـتي رسـمـهـا عـام 1904 وعـرضـهـا (1905) :

 
ونـلاحـظ فـيـهـا طـريـقـتـه في تـركـيـب الـلـوحـة ورسـم الـتّـفـاصـيـل : فـالـلـوحـة عـنـده مـسـطـحـة يـوزّع عـلـيـهـا جـزئـيـات الـمـوضـوع بـشـكـل مـتـسـاوي. وكـان بـهـذا مـن سـابـقي حـركـة الـ  all-over الّـتي ظـهـرت بـعـد ذلـك في 1948. 

وهـو يـبـدل الـمـنـظـور (الّـذي لـم يـكـن يـتـقـن اسـتـعـمـالـه لأنّـه لـم يـدرس في أكـاديـمـيـات الـفـنـون) بـتـشـابـكـات تـتـراكـب وتـتـداخـل وبـكـتـل ومـحـاور تـحـيـد نـظـر الـرّائي وتـخـدعـه فـيـدور في لابـريـنـثـات تـجـول بـه في داخـل الـلـوحـة. 

وهـو لـم يـكـن يـهـتـم بـدقـة تـصـويـر الـجـزئـيـات في مـواضـعـهـا مـن الـتّـشـكـيـل وإنّـمـا يـرسـم كـلّ واحـدة مـنـهـا عـلى حـدّة تـتـجـمـع في نـفـس الـمـكـان، فـنـرى مـواجـهـة أوراق أشـجـار يـنـبـغي أن تـصـوّر جـانـبـيـاً ... وهـو يـظـهـر الـشّئ مـن جـانـبـه الّـذي يـعـجـبـه والّـذي لا عـلاقـة لـه بـالـحـقـيـقـة الـمـرئـيـة. وكـان بـهـذا مـن سـابـقي الـحـركـة الـتّـكـعـيـبـيـة.  وهـذا مـا يـفـسّـر لـمـاذا سـقـط بـابـلـو بـيـكـاسـو في دائـرة سـحـر لـوحـات الـجـمـركـجي عـنـدمـا رآهـا في بـاريـس بـعـد قـدومـه إلـيـهـا مـن إسـبـانـيـا. 

ولا يـهـتـم الـجـمـركـجي، مـثـلـه مـثـل رسـامي الـقـرون الـوسـطى، بـالـنّـسـب والـمـقـايـيـس والأحـجـام فـهـو يـضـخّـم أحـجـام نـبـاتـات صـغـيـرة ويـصـغّـر أشـجـاراً ضـخـمـة وتـتـفـخّـم عـنـده أشـيـاء وتـتـضـاءل أخـرى حـسـب الـمـكـان الـخـالي الّـذي يـبـقى في الـلـوحـة لـيـضـعـهـا فـيـه.


وغـالـبـاً مـا يـتـرك في أعـلى الـلـوحـة شـريـط سـمـاء يـضـع فـيـه شـمـسـاً حـمـراء تـنـحـدر نـحـو الأفـق لـيـدل عـلى أن الـمـشـهـد حـدث وقـت الـغـروب أو بـدراً مـسـتـديـراً لـيـدل عـلى حـدث لـيـلي ...

وتـضـفي كـلّ هـذه الـتّـجـاوزات والإبـتـعـادات عـن الـواقـع الـمـحـسـوس عـلى لـوحـات هـنـري روسـو مـسـحـة مـن الـغـمـوض تـجـذب كـثـيـراً مـن الـمـشـاهـديـن وتـدخـلـهـم في أجـوائـهـا. ونـرى بـوضـوح كـلّ مـا ذكـرتـه إذا مـا تـأمّـلـنـا أشـهـر لـوحـاتـه مـثـل لـوحـتـه حـوّاء Eve  (1907) :



أو لـوحـتـه الـحـاويـة "سـاحـرة الـثّـعـابـيـن"  La Charmeuse de serpents  (1907) :


أو الـحـلـم Le rêve (1910) :



أمّـا عـن سـعـد الـعـطّـار فـلـديـنـا لـوحـة (هـل رسـمـتـهـا عـام 1970؟) عـنـوانـهـا : خـيـول في غـابـة   Horses in a forest (زيـت عـلى قـمـاش 82×36 سـم.)، لـم تـسـتـعـمـل فـيـهـا إلّا تـدرّجـات الـلـون الـبـنّي 



وقـد أخـذت في عـام 1988 نـفـس الـغـابـة ووضـعـت فـيـهـا فـارسـاً عـلى فـرس، وأضـافـت عـلى تـدرّجـات الـلـون الـبـنّي لـمـسـات زرقـاء : 



وقـد وجـدت صـورة لـلـوحـة آخـرى تـشـبـهـهـا وضـعـت فـيـهـا عـدداً مـن الـنّـسـاء. وعـلـيـنـا أن نـدقـق الـنّـظـر في أجـزائـهـا لـنـعـثـر عـلـيـهـنّ وسـط الـنـبـاتـات الـكـثّـة ... :


وقـد حـوّرت الـغـابـة لـتـصـبـح جـنّـات عـدن أو الـفـردوس (ولا يـنـبـغي أن نـنـسى أنّ كـلـمـة paradise في الـلـغـات الأوربـيـة جـاءت مـن فـردوس).
والـفـردوس عـنـدهـا مـثـل أدغـال هـنـري روسـو صـفـحـة مـسـتـويـة تـوزع عـلـيـهـا جـزئـيـات الـمـوضـوع بـشـكـل مـتـسـاوي، تـحـتـلّ مـقـدمـتـهـا نـبـاتـات تـرتـفـع كـثّـة مـتـلـوّيـة :




تـغـطـيـهـا أوراق نـبـاتـات مـتـنـوّعـة تـعـلـوهـا أشـجـار وارفـة مـمـتـدّة الأغـصـان. وهي تـرسـم تـفـاصـيـل الـلـوحـة تـمـامـاً مـثـلـمـا يـرسـمـهـا الـجـمـركـجي : كـلّ واحـدة مـنـهـا عـلى حـدّة تـتـجـمـع في نـفـس الـمـكـان، فـنـرى مـواجـهـة أوراق أشـجـار يـنـبـغي أن تـصـوّر جـانـبـيـاً ... :




 وهـي تـظـهـر الـشّئ تـمـامـاً كـمـا كـان يـفـعـلـه، مـن جـانـبـه الّـذي يـعـجـبـهـا، والّـذي لا عـلاقـة لـه بـالـحـقـيـقـة الـمـرئـيـة. تـنـفـتـح في آخـرهـا عـلى الـسّـمـاء :





ولـكـنّ سـعـد الـعـطّـار تـرسـم تـشـكـيـلـهـا بـطـريـقـة أكـاديـمـيـة تـعـلـمـتـهـا في مـدارس الـفـنّ فـلا تـتـوصّـل إلى الأجـواء "الـفـطـريـة" أو "الـبـدائـيـة" الّـتي خـلـقـهـا الـجـمـركـجي بـطـريـقـة رسـمـه الـعـفـويـة الـتّـلـقـائـيـة. ولـهـذا يـعـجـب الـمـتـأمّـل لـلـوحـات سـعـاد الـعـطـار بـهـا كـثـيـراً ولـكـنّـه يـبـقى مـنـتـصـبـاً أمـامـهـا، لا يـدخـل في أجـوائـهـا. وهـذا مـا شـعـرت بـه عـنـدمـا رأيـت صـورة لـوحـتـهـا "الـجـنّـة بـالأخـضـر  Pradise in Green"  الّـتي نـفّـذتـهـا في 1983. وهي عـمـل غـرافـيـكي بـطـريـقـة الأكـواتـنـت  aquatint وبـالألـوان (44×34,5 سـم.) :


والـفـردوس أو جـنّـة عـدن عـنـد سـعـاد الـعـطّـار يـسـكـنـهـا رجـل وامـرأة (آدم وحـواء)، نـراهـمـا مـسـتـلـقـيـيـن يـحـيـط  ذراع الـواحـد مـنـهـمـا الآخـر في سـكـيـنـة تـامّـة بـيـن حـيـوانـات تـرعى بـسـلام :

                              (جـنّـات عـدن Garden of Eden، زيـت عـلى قـمـاش (153×183 سـم. 1993)

ومـبـاشـرة قـبـل أن يـغـريـهـمـا الـشّـيـطـان الـمـلـتـفّ حـول شـجـرة الـتّـفّـاح عـلى شـكـل ثـعـبـان :

 
وأكـرر الـقـول هـنـا بـأنّ عـرضي الـسّـريـع هـذا لا يـعـتـمـد إلّا عـلى لـوحـات قـلـيـلـة لـسـعـاد الـعـطّـار، وأنّ ثـغـرات كـثـيـرة في مـعـلـومـاتي عـن لـوحـاتـهـا الـفـردوسـيـة تـعـيـقـني عـن مـتـابـعـة هـذا الـمـوضـوع فـيـهـا رغـم أنّـه يـسـتـحـق ولا شـكّ دراسـة مـتـعـمـقـة وافـيـة.

وأنـهي مـلاحـظـاتي الـبـسـيـطـة هـذه بـصـورة لـلـوحـة رسـمـتـهـا سـعـاد الـعـطّـار عـام 2002، امـتـزجـت فـيـهـا الـتّـفـاصـيـل وذابـت في ضـوء أصـفـر مـحـمـرّ مـن شـمـس تـنـزل مـن سـمـاء تـحـتـلّ حـوالي ثـلـث الـلـوحـة نـحـو أفـق غـطّـتـه الـعـتـمـة بـيـنـمـا اسـتـمـرّت تـنـيـر تـكـويـنـات مـبـهـمـة في مـقـدمـة الـلـوحـة :


ورغـم أشـكـال الـنّـخـلات الّـتي اعـتـدنـا عـلى رؤيـتـهـا في لـوحـاتـهـا "الـفـردوسـيـة" فـقـد تـركـنـا عـالـم أدغـال الـجـمـركـجي الإسـتـوائـيـة لـنـقـتـرب مـن فـتـرة مـن فـتـرات عـمـلاق الـفـنّ الإنـكـلـيـزي ولـيـام تـرنـر عـنـدمـا بـدأت الأشـكـال في لـوحـاتـه تـتـحـلـل وتـذوب في الـنّـور ...

ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عـرفـت مـن قـراءة الـفـصـل الّـذي خـصـصـتـه الأديـبـة والـنّـاقـدة مي مـظـفّـر لـلـفـنّـانـة سـعـاد الـعـطّـار في كـتـابـهـا : "الـفـنّ الـحـديـث في الـعـراق : الـتّـواصـل والـتّـمـايـز" أنّ هـنـاك نـسـخـة مـن الـلـوحـة (طـبـاعـة عـلى الـورق لـحـفـر عـلى الـمـعـدن) بـالـلـون الأزرق أسـمـتـهـا "الـجـنّـة بـالأزرق Pardise in blue".
(2) وهـو مـا ذكـره الـدّكـتـور خـالـد الـقـصّـاب مـثـلاً في كـتـابـه : "ذكـريـات فـنّـيـة"، تـحـريـر مي مـظـفّـر، دار الـحـكـمـة، لـنـدن 2007 (ص. 107ـ 108).




  حـقـوق الـنّـشـر مـحـفـوظـة لـلـدّكـتـور صـبـاح كـامـل الـنّـاصـري.    © 
       يـرجى طـلـب الإذن مـن الـكـاتـب قـبـل إعـادة نـشـر هـذا الـمـقـال.