jeudi 19 octobre 2017

"نـحـو الـرؤيـا الـجـديـدة"



                                             

 


الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري


بـيـان فـنّي نـشـره سـتّـة تـشـكـيـلـيـيـن مـجـدديـن :

نـشـر سـتّـة مـن الـفـنـانـيـن الـعـراقـيـيـن الـشّـبـاب في نـهـايـة عـام 1969 بـيـانـاً فـنّـيـاً، يـعـرضـون فـيـه نـظـرتـهـم لـلـفـنّ وعـلاقـتـهـم كـفـنّـانـيـن بـمـجـتـمـعـهـم وبـالـعـالـم، ومـوقـفـهـم مـن الـتّـراث والـتّـجـديـد.
والـفـنّـانـون الـسّـتّـة، كـمـا كـتـبـوا اسـمـاءهـم في الـبـيـان، هـم :

 
وقـد كـتـب الـفـنّـانـون الـسّـتّـة بـيـانـهـم الـطـويـل، بـأربـع صـفـحـات، في تـشـريـن الأوّل عـام 1969، ونـشـروه بـعـد ذلـك بـقـلـيـل في كـتـيـب ضـمّ أيـضـاً مـلـفّـاً عـن كـلّ واحـد مـنـهـم، فـيـه صـفـحـة تـحـتـوي عـلى صـورتـه، يـصـاحـبـهـا نـصّ قـصـيـر يـتـكـلّـم فـيـه عـن رؤيـتـه لـلـفـنّ، ومـعـلـومـات عـنـه وعـن مـسـيـرتـه الـفـنّـيـة. وعـرضـت ثـلاثـة أو أربـعـة أعـمـال مـخـتـارة (بـالأبـيـض والأسـود) لـكـلّ واحـد مـنـهـم.

"نـحـو الـرؤيـا الـجـديـدة" :

وأوّل مـا يـثـيـر دهـشـتـنـا في هـذا الـكـتـيـب هـو عـنـوانـه : "نـحـو الـرّؤيـا الـجـديـدة" ! فـقـد تـعـوّدنـا عـلى قـراءة : "الـرؤيـة الـجـديـدة" بـالـتّـاء الـمـربـوطـة في كـلّ مـكـان، وهـا نـحـن نـراه مـكـتـوبـاً بـالألِـف.
 ثـمّ إنّ الـنّـعـت والـمـنـعـوت في الـعـنـوان مـعـرّفـان بـأداة الـتّـعـريـف (الـ). فـلم تـكـن إذن، حـسـب مـا يـفـهـمـه الـقـارئ، "رؤيـا جـديـدة" بـجـانـب رؤى أخـرى وإنّـمـا "الـرّؤيـا الـجـديـدة" الـوحـيـدة الّـتي لا يـمـكـن أن تـوجـد بـجـانـبـهـا رؤيـا أخـرى.

وكـلـمـة "الـرّؤيـا"، كـمـا يـعـرف قـرائي الأعـزّاء، لـهـا عـلاقـة تـضـمـيـنـيـة بـأسـفـار الـتّـوراة والإنـجـيـل. وهي تـدلّ عـلى وحي يـأتي الأنـبـيـاء في الـمـنـام، مـثـل "رؤيـا" يـوحـنـا الـلاهـوتي مـثـلاً. ولا أظـنّ أنّ الـفـنّـانـيـن الـشّـبـاب الّـذيـن كـتـبـوا الـبـيـان انـتـبـهـوا إلى هـذا الـتّـفـاوت في الـدّلالـة بـيـن مـا قـصـدوه وبـيـن مـا يـمـكـن أن يـفـهـمـه الـقـارئ.

ولـكـنّ عـلـيـنـا أن نـعـود الآن إلى ظـروف الـتـقـاء هـؤلاء الـفـنّـانـيـن وكـتـابـتـهـم لـلـبـيـان وتـشـكـيـلـهـم لـجـمـاعـة عـرفـت بـ "جـمـاعـة الـرؤيـة الـجـديـدة". (وهـنـا أكـتـب : "الـرؤيـة" بـالـتّـاء الـمـربـوطـة كـمـا تـعـودنـا أن نـراه في كـلّ مـكـان).

جـمـاعـة الـرؤيـة الـجـديـدة :
   
سـجّـلـتُ في كـتـاب "رافـع الـنّـاصـري، حـيـاتـه وفـنّـه" مـا ذكـره لي فـنّـانـنـا الـرّاحـل مـن الـتـقـائـه بـعـد عـودتـه مـن لـشـبـونـة مـع هـاشـم سـمـرجي (1) بـضـيـاء الـعـزّاوي وبـمـحّـمـد مـهـر الـدّيـن، الّـذي كـان قـد عـاد إلى بـغـداد أيـضـاً بـعـد أن أكـمـل دراسـتـه الـفـنّـيـة في بـولـنـدة، وبـصـالـح الـجـمـيـعي وبـإسـمـاعـيـل فـتّـاح الـتّـرك، الّـذي كـان قـد عـاد هـو الآخـر مـن رومـا :  

"فـأسـسـوا جـمـاعـة فـنّـيـة أطـلـقـوا عـلـيـهـا اسـم "الـرؤيـة الـجـديـدة"، وأصـدروا في نـهـايـة عـام 1969  بـيـانـاً فـنّـيـاً أعـلـنـوا فـيـه عـن قـيـام جـمـاعـتـهـم. وحـددوا فـيـه مـواقـفـهـم مـن عـدد مـن الـقـضـايـا الـفـنّـيـة كـالـحـرّيـة في الـفـنّ والـتّـواصـل مـع الـتّـراث عـلى أسـاس الـتّـعـامـل مـعـه بـحـريـة وشـفـافـيـة. وكـان هـدف الـبـيـان دفـع الـحـركـة الـتّـشـكـيـلـيـة في الـعـراق إلى مـدى أبـعـد، وتـحـفـيـز جـهـود الـفـنّـانـيـن بـعـد الـنّـكـسـة".

"وأقـامـت الـمـجـمـوعـة أوّل مـعـرض مـشـتـرك عـام 1971، في قـاعـة الـمـتـحـف الـوطـني لـلـفـنّ الـحـديـث ضـمّ أعـمـال أربـعـة مـنـهـم فـقـط، إذ لـم يـشـارك فـيـه مـحـمّـد مـهـر الـدّيـن ولا إسـمـاعـيـل فـتّـاح".
"وكـان لـكـلّ مـن أعـضـاء هـذه الـجـمـاعـة تـجـربـة جـديـدة، فـشـكّـلـت تـجـاربـهـم الّـتي طـرحـت في هـذا الـمـعـرض حـدثـاً فـنّـيـاً أثـار اهـتـمـام الـمـشـاهـديـن والـنّـقّـاد لـمـا تـضـمـنـتـه مـن تـوجـهـات جـديـدة، سـواء في الـتّـعـبـيـر أو في الـتّـقـنـيـات". "وكـتـب لـهـم جـبـرا إبـراهـيـم جـبـرا مـقـدّمـة طـويـلـة تـصـدّرت دلـيـل الـمـعـرض بـعـنـوان "أربـعـة رسّـامـيـن مـن بـغـداد". (2)

الـبـيـان :

ونـعـود الآن إلى بـيـان "نـحـو الـرؤيـا الـجـديـدة" الّـذي يـبـدأ بـجـمـلـة يـصـعـب فـهـمـهـا :



وربّـمـا يـمـكـنـنـا أن نـفـهـم أنّ دور الـفـنّـان الـمـعـاصـر الّـذي يـمـثـل الإنـسـان الـواعي مـا هـو إلّا اكـتـشـاف ذاتـه في الـداخـل واكـتـشـاف الـذّات الـحـضـاريـة لـلـعـالـم الـخـارجي والـتّـعـبـيـر عـنـهـمـا، رغـم أنـنـا لا نـعـرف بـالـضـبـط مـا الـمـقـصـود بـالـذّات الـحـضـاريـة.

ويـشـرح لـنـا فـنّـانـونـا أنّ اكـتـشـافـات الإنـسـان وتـخـطـيـه لـعـالـمـه الـخـارجي أوصـلـتـه إلى مـرحـلـتـه الـحـضـاريـة الـحـالـيـة. وأنّ الـحـركـة الـحـيّـة هي الّـتي تـخـلـق الـوجـود الـفـعـلي، وأنّ اسـتـمـراريـة الـبـحـث عـن تـطـور الأشـيـاء الـمـسـتـمـرّ وتـغـيـرهـا الـدائـم صـفـة الإنـسـان الـواعي، فـعـالـم الـفـنّـان الـمـعـاصـر مـتـحـرك قـابـل لـلـتّـغـيـيـر. ويـدفـع غـمـوض الـعـالـم الـفـنّـان لاكـتـشـاف جـوهـره الـحـقـيـقي ولـتـجـاوز حـدود الـمـظـهـر في الـطّـبـيـعـة والـعـلاقـات الإجـتـمـاعـيـة :

 ثـمّ يـكـمـلّـون :



ونـلاحـظ هـنـا الـعـرض الـمـخـتـزل الـمـسـطـح لـتـاريـخ الـفـنّ في رأي فـنّـانـيـنـا، فـالإدّعـاء بـأنّ فـنّ "الـبـدائـيـيـن" كـان لـلـسّـحـر وفـنّ الـيـونـانـيـيـن لـكـشـف الـجـمـال وفـنّ الـقـرون الـوسـطى لـتـوطـيـد الإيـمـان مـا هـو إلّا رؤيـة جـزئـيـة ونـاقـصـة لـتـجـارب شـديـدة الـتّـنـوع والـثّـراء دامـت آلاف الـسّـنـيـن.

ثـمّ أنّـهـا رؤيـة غـربـيـة تـعـتـمـد عـلى الـتّـجـربـة الأوربـيـة ولا تـأخـذ بـنـظـر الإعـتـبـار الـحـضـارات الأخـرى مـنـذ الألـف الـرّابـع قـبـل الـمـيـلاد وحـتّى بـدايـة الـقـرن الـعـشـريـن م. وكـلّ فـنّ في أي مـكـان مـا وفي أيّـة فـتـرة تـاريـخـيـة مـا هـو إلّا مـمـارسـة إنـسـانـيـة عـلى احـتـكـاك دائـم بـالـعـالـم.

ونـفـهـم أنّ فـنّـانـيـنـا كـانـوا ضـدّ الـمـمـارسـات الـتّـقـلـيـديـة الـمـتـحـجّـرة، أي الّـتي كـان الـفـنّـانـون يـقـلـدون فـيـهـا بـعـضـهـم الـبـعـض الآخـر عـبـر الأجـيـال، وأنّـهـم كـانـوا يـحـلـمـون بـحـريـة تـسـمـح لـهـم بـاكـتـشـاف أشـكـال فـنّـيـة جـديـدة وبـابـتـكـارات لـم يـسـبـقـهـم إلـيـهـا أحـد.

ولـكـنّ طـمـوحـاتـهـم لا تـتـوقـف عـنـد خـلـق أسـالـيـب جـديـدة لـلـتّـعـبـيـر الـفـنّي، إنّـمـا تـسـتـمـر نـحـو الإلـتـزام، فـالإنـسـان عـنـدهـم نـاطـق بـاسـم الـعـالـم وبـاسـم الإنـسـان و"يـحـيـا بـتـضـحـيـة دائـمـة ازاء عـالـمـه مـعـبـراً بـذلـك عـن رغـبـة حـادّة في رفـض أقـنـعـة الـتّـزيـيـف، وبـهـذا فـهـو دائـم الإمـتـلاك لـمـا يـريـد أن يـقـولـه". فـهـو يـحـتـاج إذن في الـتـزامـه إلى حـريـة الـتّـعـبـيـر.


وهـم يـخـرجـون الـفـنّ مـن الـحـدود الإجـتـمـاعـيـة والـسّـيـاسـيـة وحـتّى الـتّـاريـخـيـة الـضّـيّـقـة ويـتـخـطّـون بـه الـمـكـان والـزّمـان :  "إنّ وحـدة الـنّـتـاجـات الـفـنّـيـة عـبـر الـتّـاريـخ تـضـع الـفـنّـان في مـركـز الـعـالـم وفي بـؤرة الـثّـورة" فـجـوهـر الـفـنّـان هـو هـو في كـلّ الـحـضـارات الّـتي تـعـاقـبـت في الـعـالـم وفي كـلّ الـفـتـرات الـتّـاريـخـيـة. و"الـتّـغـيـيـر والـتّـجـاوز وجـهـان لـلـتّـحـدي الـواعي لـكـلّ مـا يـحـيـط عـالـمـه مـن قـيـم اجـتـمـاعـيـة وفـكـريـة مـتـخـلّـفـة". والـفـنّـان الـحـقـيـقي يـرفـض أن يـكـون أسـيـراً "لـلـجـسـد الـمـحـنّـط مـن الـقـيـم الإجـتـمـاعـيـة الـبـالـيـة". وهـو "يـتـجـاوز كـلّ الـمـعـطـيـات الـجـاهـزة مـحـوّلاً نـفـسـه إلى حـلاج آخـر ضـدّ الـظـلـم والـعـبـوديـة الـفـكـريـة ... فـالـفـنّـان نـاقـد وثـوري مـن خـلال سـلـبـيـة الـعـالـم الـمـحـيـط بـه" و"يـسـعى لإعـادة تـركـيـب الـعـالـم داخـل رؤيـا فـنّـيـة جـديـدة".


ويـمـكـن لـلـفـنّـان "إعـادة خـلـق الـتّـاريـخ أو إبـداعـه مـن جـديـد. فـهـو عـنـدمـا يـحـقـق مـن خـلال الـسّـطـح ذي الـبـعـد الـواحـد عـالـمـه الـخـاص والـمـمـيـز فـإنّـه يـقـدّم لـلـعـالـم حـقـيـقـة تـبـدو لأوّل وهـلـة غـيـر مـوجـودة ... وهـو بـقـدرتـه الإبـداعـيـة مـنـحـهـا حـضـوراً في عـالـم الـنّـور لـتـعـيـنـنـا في الـكـشـف عـن بـعـض الـجـوانـب الـخـفـيـة مـن تـجـربـتـنـا الـحـيّـة مـمـا قـد لا تـنـجـح الـتّـصـورات الـعـقـلـيـة في إزاحـة الـنّـقـاب عـنـه". 

ويـمـكـن لـلـقـارئ أن يـفـهـم أنّ الـسّـطـح ذي الـبـعـد الـواحـد الّـذي يـحـقـق الـفـنّـان مـن خـلالـه عـالـمـه الـخـاص هـو سـطـح الـلـوحـة، وإن كـنّـا نـعـرف أنّ لـلـوحـة بـعـديـن : الـطّـول والـعـرض، وهـو مـا يـمـيـزهـا عـن الـعـالـم الـمـحـسـوس الـثّـلاثي الأبـعـاد : الـطّـول والـعـرض والـعـمـق.



والـفـنّـان يـسـتـعـيـن بـالـرّؤيـا الـفـنّـيـة لـيـثـبـت دعـائـم الـعـالـم الّـذي يـريـد أن يـبـنـيـه مـن جـديـد، ويـخـرج عـالـم الـفـنّـان إلى الـوجـود الـعـلـني بـمـمـارسـتـه لـفـنّـه، وهـو لا يـريـد أن يـحـمـل في جـوفـه جـسـد الـمـجـتـمـع الـمـيـت لأنّـه لـيـس فـنّـان صـنـعـة يـعـيـش مـنـهـا ولا فـنّـان سـلـعـة.

والـفـنّـان يـعـيـش الـعـصـور كـلّـهـا ويـعـيـش في نـفـس الـوقـت الـلـحـظـة الـحـاضـرة، وهـو يـشـعـر بـأنّ الـمـاضي يـوجـه الـحـاضـر، وأنّ بـيـن الـمـاضي تـوحـد وتـواجـد، وبـهـذا تـصـبـح الأسـطـورة والـحـس الـتّـاريـخي الـوسـيـط الّـذي يـوصـل الـفـنّـان إلى عـالـمـه الـجـديـد، وهي عـودة لـلـذّات الـوحـيـدة، الـحـضـاريـة والإنـسـانـيـة. 

 

ويـتـحـول الـمـقـطـع الـتّـالي إلى شـعـارات وطـنـيـة، فـالـفـنّـانـون الـسّـتّـة مـطـالـبـون دائـمـاً بـالـتّـحـدي والـمـواجـهـة لـكـلّ مـا يـهـدد الـوطـن مـن أخـطـار، يـعـيـشـون وسـط دوّامـة الـزّحـوف الـعـسـكـريـة لـلـنّـازيـة الـجـديـدة ومـهـددون دائـمـاً بـوجـودهـم، وهـم يـنـادون بـفـنّ طـلـيـعي يـجـمـع إلى جـانـب هـدفـه الإنـسـاني رؤيـا فـنّـيـة جـديـدة، ثـمّ يـعـودون إلى إدانـة عـمـلـيـات الانـسـحـاق الّـتي مـارسـتـهـا الـعـلاقـات الإجـتـمـاعـيـة تـجـاه الـفـنّـان والّـتي جـعـلـت مـنـه حـامـلاً لأقـنـعـة الـتّـزيـف والـمـهـادنـة حـيـنـاً وضـحـيـة حـيـنـاً آخـر :



 وهـم يـريـدون أن يـكـونـوا طـلـيـعـة الـتّـحـدّي : "لـكي نـوجـد لـوحـة الـتّـخـطّي الـمـسـتـقـلّـة ... الـلـوحـة الّـتي تـهـزّ الأعـمـاق ... تـمـزّق الـتّـزيـف وتـفـتـح نـهـر الـحـيـاة في مـجـتـمـعـنـا". ويـحـاول الـقـارئ أن يـفـهـم مـا الـمـقـصـود بـهـذه الـلـوحـة. هـل هي الـعـمـل الـفـنّي ؟ ومـاذا إذن عـن الـنّـحـت والـمـعـمّـار والـمـوسـيـقى  ... إلـخ ؟
ولـذلـك فـعـلـيـهـم أن يـمـزّقـوا الـتّـراث لـيـوجـدوه مـن جـديـد، يـتـحـدّونـه لـكي يـتـجـاوزوه. ولا يـعـتـرفـون بـه إلّا في حـدود وجـوده الـمـتـحـفي :


وهـنـا يـتـسـاءل الـقـارئ مـن جـديـد عـن مـا يـقـصـدونـه بـهـذا الـتّـراث الـمـتـحـفي الّـذي تـمـزّقـه لـوحـاتـهـم الـجـديـدة لـتـعـيـد بـنـاءه. هـل هـو تـراث الـقـرون الـسّـابـقـة الّـذي لـم يـصـلـهـم مـنـه إلّا الـنّـادر الـقـديـم، والّـذي خـرّب الـجـيـل الّـذي سـبـقـهـم آثـاره عـنـدمـا أبـدل الـمـعـمـار الـتّـراثي بـالـمـعـمـار "الـحـديـث"، وأضـاع الـمـنـحـوتـات الّـتي كـانـت تـبـهـر الأعـيـن عـلى واجـهـات الـمـبـاني، والـرّسـوم الّـتي كـانـت تـزيـن داخـلـهـا، أم يـقـصـدون الـفـنّ الأكـاديـمي الّـذي كـان قـد تـعـلّـمـه جـيـلّ الـرّواد في الـمـدارس الـعـسـكـريـة الـعـثـمـانـيـة كـمـا تـعـلّـمـه مـدرسّـوهـم في مـعـهـد الـفـنـون الـجـمـيـلـة في الـمـدارس الأوربـيـة؟ فـمـا هـو هـذا "الـقـديـم الـمـحـنّـط" ؟ 

ويـقـدّم الـفـنّـانـون الـسّـتّـة في نـهـايـة بـيـانـهـم "مـلـخّـصـاً طـويـلاً" بـعـشـرة بـنـود لـرؤيـتـهـم الـجـديـدة :
*  الـفـنّ الـحـديـث لـغـة الـمـجـتـمـع الـمـعـاصـر.
*  حـريـة الـتّـعـبـيـر هي حـرّيـة الـثّـورة.
*  كـلّ إبـداع هـو فـنّ وهـو تـنـاقـض مـع الـجـمـود.
*  الـنّـقـد الـفـنّي الـجـيّـد هـو الّـذي يـوصـل الـتّـجـربـة الـفـنّـيـة لـلـجـمـهـور.
*  الـمـاضي لـيـس شـيـئـاً جـامـداً بـل هـو مـوقـفٌ يـتـخـطى الـزّمـن [!]
*  الـنّـتـاجـات الـفـنّـيـة هي الـتّي تـتـفـاعـل مـع الـجـمـهـور لا الـفـنّـان.
*  تـمـجـيـدهـم لـدور جـيـل الـرّوّاد الـتّـاريـخي رغـم رفـضـهـم لـوصـايـتـهـم الأكـاديـمـيـة.
*  تـحـدي الـعـالـم ورفـض هـزيـمـة الأمّـة الـعـسـكـريـة والـفـكـريـة.
*  تـبـنّي الـثّـورة الـتّي تـتـجـاوز الـقـيـم الـسّـلـبـيـة وتـبـلـور لـروح الـمـسـتـقـبـل.
*  مـمـارسـة الـفـنّ رهـن بـمـمـارسـة الإنـسـان لـجـوهـره الإنـسـاني، والـثّـورة الـمـتـخـطّـيـة هي الـفـنّ الـمـسـتـقـبـلي الـمـدهـش والـمـحـقـق لـلـرؤيـا الـجـديـدة :





 ورغـم أنّ فـنّـانـيـنـا مـنـحـوا بـيـانـهـم "عـنـف الـشّـبـاب وتـمـرّده" بـعـرضـهـم الـمـفـصّـل لـلـوضـع الإجـتـمـاعي والـسّـيـاسي الّـذي كـانـوا يـعـيـشـونـه، ولـرغـبـتـهـم في تـحـدّيـه وتـجـاوزه وإعـادة بـنـائـه، ولـمـشـاعـرهـم الـوطـنـيـة، فـإنّ الـقـارئ لا يـجـد شـيـئـاً تـقـريـبـاً عـن مـشـروعـهـم الـفـنّي، فـهـم لا يـتـكـلّـمـون عـن نـوعـيـة الـنّـتـاجـات الـفـنّـيـة الّـتي يـهـدفـون إلـيـهـا ولا عـن وسـائـل تـنـفـيـذهـا ولا عـن الـمـوادّ الّـتي يـسـتـعـمـلـونـهـا لـلـوصـول إلى ذلـك. وهـم لا يـتـكـلّـمـون عـن الأسـالـيـب الّـتي يـبـتـكـرونـهـا ولا عـن قـربـهـا أو بـعـدهـا عـن أسـالـيـب الـمـدارس الـفـنّـيـة الـعـالـمـيـة الـمـعـروفـة في تـلـك الـسّـنـوات ولا عـن عـلاقـاتـهـم بـالـتّـجـارب الـفـنّـيـة "الـمـتـمـرّدة" أو "الـثّـوريـة" في أنـحـاء الـعـالـم. 



والإشـارة الـوحـيـدة إلى الـفـتـرات الـفـنّـيـة الـغـربـيـة نـجـدهـا في الـجـزء الـمـخـصـص لإسـمـاعـيـل فـتـاح، والّـتي يـذكـر فـيـهـا :




وهي جـمـلـة صـعـبـة الـفـهـم، فـهـل يـقـصـد بـهـا أنّ عـصـر الـنّـهـضـة الأوربي كـان عـصـر الإنـحـطـاط الـفـنّي، وهـو حـكـم غـريـب، أم أنّ عـصـر الإنـحـطـاط تـبـع عـصـر الـنـهـضـة، وهـو حـكـم أشـدّ غـرابـة ؟ ولـمـاذا يـتـوقـف عـنـد الأكـاديـمـيـيـن بـدلاً مـن اسـتـيـحـاء تـجـارب الـمـجـدديـن في أوربـا مـنـذ مـنـتـصـف الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر ؟  

ورغـم أنّ صـور الـلـوحـات (بـالأبـيـض والأسـود) الّـتي وضـعـوهـا في الـمـلـفّـات الـمـصـاحـبـة لـلـبـيـان تـدّل عـلى مـيـلـهـم لـلـتّـجـريـد، وهـو مـا يـوضـح تـمـردهـم عـلى أكـاديـمـيـة أسـاتـذتـهـم مـن جـيـل الـرّوّاد، فـهـم لا يـذكـرون تـقـنـيـاتـهـا الـفـنّـيـة، ولا أوجـه الـخـلـق والإبـتـكـار فـيـهـا. وبـهـذا يـبـدو لـنـا أنّـهـم كـانـوا يـتـوجـهـون في بـيـانـهـم لـمـعـاصـريـهـم مـن الـفـنّـانـيـن وهـواة الـفـنّ الّـذيـن كـانـوا يـعـرفـون هـذه الأعـمـال.

ولا شـكّ في أنـنـا نـحـتـاج أيـضـاً لـمـعـرفـة الأعـمـال الـفـنّـيـة الّـتي ضـمّـهـا مـعـرض جـمـاعـة الـرؤيـة الـجـديـدة الأوّل عـام 1971، لـنـفـهـم تـمـامـاً مـضـمـون الـبـيـان.
وأعـيـد هـنـا مـا سـبـق أن اسـتـشـهـدت بـه مـن وصـف الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري لـلـمـعـرض :
"وكـان لـكـلّ مـن أعـضـاء هـذه الـجـمـاعـة تـجـربـة جـديـدة، فـشـكّـلـت تـجـاربـهـم الّـتي طـرحـت في هـذا الـمـعـرض حـدثـاً فـنّـيـاً أثـار اهـتـمـام الـمـشـاهـديـن والـنّـقّـاد لـمـا تـضـمـنـتـه مـن تـوجـهـات جـديـدة، سـواء في الـتّـعـبـيـر أو في الـتّـقـنـيـات"(2). 

ومـعـرفـة هـذه الـتّـوجـهـات الـجـديـدة في الـتّـعـبـيـر وفي الـتّـقـنـيـات هي الّـتي تـنـقـصـنـا إذا مـا اكـتـفـيـنـا بـقـراءة الـبـيـان لـلـحـكـم عـلى دور هـذه الـجـمـاعـة في تـاريـخ الـفـنّ الـعـراقي الـحـديـث.
 


الـمـلـفّـات الـمـلـحـقـة بـالـبـيـان :


إسـمـاعـيـل فـتّـاح :







إنـسـجـام بـالأبـيـض : 




رجـل وكـرة :






أشـكـال ورديـة :



صـالـح الـجـمـيـعي :





وجـهـان مـن سـومـر : 


جـدار قـديـم : 


إنـسـان مـعـاصـر :



ضـيـاء الـعـزّاوي :




ووجـدت صـورة مـلـوّنـة لـنـفـس الـعـمـل الـفـنّي :


الـشّـهـيـد :


عـاشـوراء




رافـع الـنّـاصـري :



  
الـمـربّـع الـبـرتـغـالي :


 
لـيـثـوغـراف رقـم 77 :



ووجـدت صـورة مـلـوّنـة لـنـفـس الـعـمـل الـفـنّي :


الـمـربّـع الأزرق : 




 مـحـمّـد مـهـر الـدّيـن :


تـكـويـن :



تـعـذيـب. تـعـذيـب. ثـم قـتـل :


حـطـام :




هـاشـم سـمـرجي :



حـركـة دائـريـة :



دائـرة ومـربّـعـان :


دائـرة ومـربّـع :



 






ـــــــــــــــــــــــ
(*)  وجـدت صـور كـتـيـب الـبـيـان في مـوقـع : "إرشـيـف الـفـنّ الـعـراقي الـحـديـث". وقـد حـاولـت الإتـصـال بـالـمـسـؤولـيـن عـن الـمـوقـع لأطـلـب مـنـهـم الإذن بـاسـتـعـمـالـه فـلـم أتـوصّـل إلى ذلـك. وأقـدّم لـهـم شـكـري عـلى نـشـرهـا.
(1) في عـام 1967، مـنـحـت مـؤسـسـة كـالـوسـت كـولـبـنـكـيـان جـمـعـيـة الـفـنّـانـيـن الـعـراقـيـيـن ثـلاث زمـالات دراسـيـة لـلـتّـخـصـص بـفـنّ الـغـرافـيـك في إحـدى الـمـؤسـسـات الّـتي تـرعـاهـا في الـبـرتـغـال، وحـصـل عـلـيـهـا رافـع الـنّـاصـري وهـاشـم سـمـرجي وسـالـم الـدّبّـاغ. وقـد اسـتـمـرّت الـدّورة حـتّى عـام 1969، وعـاد الـثّـلاثـة بـعـدهـا إلى بـغـداد.
(2) رافـع الـنّـاصـري، حـيـاتـه وفـنّـه، الـمـؤسـسـة الـعـربـيـة لـلـدّراسـات والـنّـشـر 2010، ص. 69 / 70.



   ©  حـقـوق الـنّـشـر مـحـفـوظـة لـلـدّكـتـور صـبـاح كـامـل الـنّـاصـري. 
    يـرجى طـلـب الإذن مـن الـكـاتـب قـبـل إعـادة نـشـر هـذا الـمـقـال.