vendredi 22 novembre 2019

كـتـاب جـديـد لـلـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري



 
 
 

يـمـتـاز الـفـنّـان الـمـبـدع الأصـيـل عـلـيـنـا، نـحـن الـنّـاس الـعـاديـيـن، بـقـدرتـه عـلى تـخـطي الـحـدود بـيـن عـالـمـنـا الـزّائـل وبـيـن الأزلـيـة، وعـلى الـتّـجـوّل بـيـنـهـمـا.

وقـد عـاد إلـيـنـا الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري لـيـقـصّ عـلـيـنـا أجـزاءً مـن سـيـرتـه ومـسـيـرتـه الـفـنّـيـة، بـعـد أن كـان قـد رحـل عـنّـا إلى الأبـديـة في أواخـر عـام 2013.

ومـثـل الـمـسـافـر الّـذي يـفـتـح لـنـا حـقـائـبـه الـمـلـيـئـة بـالـعـجـائـب بـعـد عـودتـه مـن سـنـوات الـغـربـة الـطّـويـلـة، يـعـود إلـيـنـا رافـع الـنّـاصـري بـمـقـالات كـان قـد كـتـبـهـا مـنـذ سـنـوات ولـم يـنـشـر أغـلـبـهـا.

ونـقـضي سـاعـات طـويـلـة نـسـتـمـع فـيـهـا لـصـوت فـنّـانـنـا يـحـكي لـنـا أطـرافـاً مـن تـجـاربـه الـحـيـاتـيـة والـفـنّـيـة ولـقـهـقـهـاتـه الـمـرحـة، مـنـذ أن نـفـتـح الـكـتـاب وإلى أن نـنـتـهي مـنـه ونـغـلـقـه. وربّـمـا عـدنـا لـنـفـتـحـه عـلى فـصـل مـا، فـيـعـود الـسّـحـر، وتـداعـب نـغـمـات صـوت فـنّـانـنـا آذانـنـا مـن جـديـد، ونـدخـل في كـتـابـه كـمـا تـعـوّدنـا أن نـدخـل في لـوحـاتـه كـلّـمـا وقـفـنـا أمـامـهـا، نـتـأمّـلـهـا ونـنـزلـق في أجـوائـهـا ونـسـيـر في أعـمـاقـهـا مـبـهـوريـن.

 
"خـمـسـون عـامـاً بـيـن الـشّـرق والـغـرب" :

وقـد جـمـعـت هـذه الـمـقـالات زوجـة الـفـنّـان، الـشّـاعـرة والـكـاتـبـة ونـاقـدة الـفـنّ الـكـبـيـرة مي مـظـفّـر في كـتـاب اخـتـارت لـه عـنـوان : "خـمـسـون عـامـاً بـيـن الـشّـرق والـغـرب"، مـع أنّ تـجـوال الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري بـيـن الـشّـرق والـغـرب دام أكـثـر مـن هـذا بـكـثـيـر، فـعـلاقـاتـه الـجـغـرافـيـة بـالـعـالـم الـواسـع بـدأت بـوصـولـه إلى الـصّـيـن عـام 1959، عـنـدمـا كـان في الـتّـاسـعـة عـشـرة مـن عـمـره. وتـعـود عـلاقـاتـه الـثّـقـافـيـة بـه إلى بـدايـة دراسـتـه في مـعـهـد الـفـنـون الـجـمـيـلـة في بـغـداد عـام 1956 عـلى أيـدي أسـاتـذة أكـمـلـوا تـعـلـيـمـهـم في أوربـا.

ويـحـوي الـكـتـاب، الّـذي صـدر عـن الـمـؤسـسـة الـعـربـيـة لـلـدّراسـات والـنّـشـر في مـنـتـصـف عـام  2019، 242 صـفـحـة بـالـقـطـع الـمـتـوسّـط اخـتـارت لـهـا الـنّـاشـرة عـدداً مـن الـصّـور بـالأبـيـض والأسـود. وأضـافـت في آخـر الـكـتـاب 24 صـفـحـة بـالـورق الـصّـقـيـل وبـالألـوان لـبـعـض لـوحـات الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري ولـصـوره الـفـوتـوغـرافـيـة ولـلـوحـات فـنّـانـيـن عـراقـيـيـن آخـريـن.

وقـد كـتـبـت  زوجـة الـفـنّـان الأديـبـة مي مـظـفّـر مـقـدمـة لـلـكـتـاب، وقـسّـمـتـه إلى خـمـسـة أقـسـام : رافـع يـتـحـدّث عـن نـفـسـه، حـوارات، تـجـارب عـراقـيـة، تـجـارب عـالـمـيـة، وتـأمـلات وخـواطـر.

وأهـمّ مـقـالات الـكـتـاب ولا شـكّ هي مـا سـجّـلـه الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري عـن حـيـاتـه وعـن مـسـيـرتـه الـفـنّـيـة، أي خـاصّـة في الـقـسـمـيـن الأوّل والـخـامـس. فـهـو يـلـخّـص لـنـا في الـمـقـال الأوّل مـن الـقـسـم الأوّل : "خـمـسـون عـامـاً بـيـن الـشّـرق والـغـرب"، وفي عـشـر صـفـحـات، وبـدقّـة ووضـوح لا مـثـيـل لـهـمـا، تـجـربـتـه الـفـنّـيـة في الـرّسـم والـطّـبـاعـة مـنـذ دخـولـه أكـاديـمـيـة بـكـيـن لـلـفـنـون الـجـمـيـلـة عـام 1959 وحـتّى عـام 2009. وقـراءة هـذا الـمـقـال تـغـني عـن قـراءة كـلّ مـا نـشـر عـنـه حـتّى الآن، فـهـو يـسـتـحـق أن يـبـدأ بـه مـؤرخـو الـفـنّ عـنـدمـا يـكـتـبـون عـنـه.

وتـكـمـل هـذه الـمـقـالـة مـقـالات أخـرى مـثـل : "مـصـادري الـبـصـريـة" الّـتي يـتـكـلّـم فـيـهـا عـن تـجـربـتـه الـغـرافـيـكـيـة الـصّـيـنـيـة في الـحـفـر عـلى الـخـشـب، وعـن تـجـربـتـه الـبـرتـغـالـيـة في الـحـفـر عـلى الـنّـحـاس، وعـن الـفـنّـانـيـن الّـذيـن وقـف طـويـلاً أمـام لـوحـاتـهـم في الـمـتـاحـف الـعـالـمـيـة وأثـروا عـلى ذائـقـتـه الـبـصـريـة.

ويـبـدأ الـقـسـم الـثّـاني مـن الـكـتـاب بـحـوار بـديـع بـيـن الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري وبـيـن بـديـل لـه اخـتـرعـه وأسـمـاه فـوّاز الـبـنـدر (1)، يـجـيـب فـيـه عـلى كـثـيـر مـن الأسـئـلـة الّـتي يـمـكـنـهـا أن تـخـطـر عـلى بـال مـحـبّي فـنّـه.
ويـقـصّ في هـذا الـحـوار قـصّـة لـوحـة "فـتـاة مـن الأهـوار" الـطّـبـاعـيـة الـشّـديـدة الـشّـهـرة، فـقـد ذهـب عـام 1962 إلى أهـوار الـجـبـايـش وطـلـب مـن فـتـاة اسـمـهـا "حـسـنـة"، لا يـتـجـاوز عـمـرهـا الـرّابـعـة عـشـرة، أن تـقـف أمـامـه لـدّقـائـق لـرسـمـهـا فـلـم تـمـانـع. وعـنـدمـا عـاد إلى بـغـداد حـفـر الـلـوحـة وطـبـعـهـا :

 


وقـد وضـعـت زوجـة الـفـنّـان، الأديـبـة مي مـظـفّـر في الـقـسـم الـثّـاني مـن الـكـتـاب : "حـوارات مـنـتـقـاة أجـريـت مـع [فـنّـانـنـا] يـتـطـرّق فـيـهـا إلى جـوانـب مـخـتـلـفـة مـن آرائـه وتـجـاربـه ومـواقـفـه الـشّـخـصـيـة والـفـنّـيـة".

ولا نـجـد في نـصـوص هـذا الـقـسـم الـسّـبـعـة مـا يـسـتـحـق الـقـراءة مـا عـدا حـوار الـفـنّـان مـع نـفـسـه الّـذي تـكـلّـمـنـا عـنـه والـمـقـابـلـة الّـتي أجـرتـهـا هي نـفـسـهـا مـعـه في 2004 ، ونـشـرتـهـا في مـجـلّـة "ألـف". ويـتـمـلـكـنـا الـعـجـب عـنـدمـا نـقـرأ في هـذا الـحـوار كـيـف أنـتـج فـنّـانـنـا في لـشـبـونـة عـام 1968  "ثـلاثـيـن لـوحـة مـن الـحـفـر عـلى الـنّـحـاس وثـلاث لـوحـات مـن الـلـيـثـوغـراف"، وعـرضـهـا في بـغـداد عـام 1969، وفي غـالـري وان في بـيـروت، وفي الـكـويـت عـام 1970. ثـمّ أرسـلـهـا إلى الـقـاهـرة عـام 1972 لإقـامـة مـعـرض شـخـصي فـيـهـا : "ولـم تـخـرج تـلـك الأعـمـال مـن مـكـانـهـا في جـمـارك الـمـطـار رغـم مـحـاولات عـديـدة مـن قـبـل وزارة الـثّـقـافـة، مـع جـهـود الـفـنّـان والـنّـاقـد حـسـن سـلـيـمـان وصـاحـبـة الـغـالـري الـسّـيّـدة روكـسـانـا. وبـقـيـت في الـمـطـار مـجـهـولـة الـمـصـيـر لـغـايـة الـيـوم" !

ويـمـكـنـنـا أن نـضـيـف إلى هـذيـن الـحـواريـن الـمـهـمّـيـن حـواراً آخـر أجـراه مـعـه الـفـنّـان الـبـحـريـني عـبّـاس يـوسـف الّـذي وجـه لـه أسـئـلـة قـصـيـرة تـنـمّ عـن فـهـمـه لـفـنّـه وسـجّـل أجـوبـة فـنّـانـنـا الـمـسـهـبـة عـلـيـهـا.

ونـجـد نـصّـيـن مـهـمّـيـن في الـقـسـم الـثّـالـث : "تـجـارب عـربـيـة". الأوّل مـنـهـمـا "مـدخـل" مـخـتـصـر شـديـد الـوضـوح "إلى نـشـأة الـحـركـة الـفـنّـيـة الـحـديـثـة في الـعـراق". والـثّـاني عـن "فـنّ الـكـرافـيـك الـعـراقي". ونـقـرأ في الـقـسـم الـرّابـع عـدّة نـصـوص عـن "تـجـارب عـربـيـة".

ونـجـد نـصـوص الـفـنّـان السّـرديـة الـمـمـتـعـة والـشّـديـدة الـتّـشـويـق في الـقـسـم الـخـامـس مـن الـكـتـاب والّـذي عـنـونـتـه الـنّـاشـرة : "تـأمـلات وخـواطـر".
فـهـو يـتـكـلّـم في "حـكـايـة سـبـع مـدن في حـيـاتي" عـن طـفـولـتـه وصـبـاه في تـكـريـت، وعـن شـبـابـه في بـغـداد، ثـمّ عـن دراسـتـه في بـكـيـن (الـصّـيـن) وعـن مـمـارسـتـه لـلـحـفـر عـلى الـنّـحـاس في لـشـبـونـة الـبـرتـغـال وعـن مـشـاركـاتـه في فـعـالـيـات الـغـرافـيـك في سـالـزبـورغ الـنّـمـسـا وعـن لـنـدن الّـتي أنـتـج فـيـهـا أعـمـلاً طـبـاعـيـة وعـن بـاريـس الّـتي زارهـا مـراراً وأقـام في مـديـنـة فـنّـهـا الـعـالـمـيـة.

ويـتـمـلـكـنـا الأسـف عـلى أحـوال عـالـمـنـا الـغـريـب عـنـدمـا نـقـرأ خـلال حـديـث فـنّـانـنـا عـن لـنـدن كـيـف تـعـرّف فـيـهـا في صـيـف 1976 عـلى الـفـنّـان الإنـكـلـيـزي هـيـو سـتـونـمـن الّـذي كـان يـمـتـلـك مـحـتـرفـاً لـلـطّـبـاعـة، وكـيـف نـفّـذ أعـمـالاً طـبـاعـيـة في هـذا الـمـحـتـرف كـان آخـرهـا عـام 1989، وهي مـحـفـظـة فـنّـيـة (بـورتـفـولـيـو) تـحـتـوي عـلى خـمـسـة أعـمـال بـعـنـوان "الـخـمـاسـيـة الـشّـرقـيـة" أبـقـاهـا هـنـاك : "لأنـني كـنـت ذاهـبـاً مـبـاشـرة مـن لـنـدن إلى الـصّـيـن بـدعـوة لإقـامـة مـعـرض اسـتـعـادي [...]. وظـلّ مـصـيـر تـلـك الأعـمـال مـجـهـولاً بـعـد أن أصـبـح سـفـرنـا إلى لـنـدن شـبـه مـسـتـحـيـل".

ووضـعـت الأديـبـة مي مـظـفّـر هـامـشـاً تـعـلـمـنـا فـيـه عـن مـصـيـر هـذا الـمـحـفـظـة : "ظـلّ رافـع حـتّى آخـر أيّـامـه يـحـنّ بـأسى إلى تـلـك الأعـمـال الّـتي ظـلّ مـصـيـرهـا مـجـهـولاً في سـنـوات الـحـصـار" إلى أن اسـتـطـاعـت عـام 2014 الـحـصـول عـلى كـمـيـة مـنـهـا :

 


ويـفـصّـل لـنـا فـنّـانـنـا الـكـلام في "حـكـايـة الـمـاء الـمـالـح" عـن عـلاقـاتـه بـالـبـحـريـن الّـتي أقـيـم لـه فـيـهـا مـعـرض شـخـصي عـام 1996، ثـمّ درّس فـيـهـا وعـيّـن مـديـراً لـمـركـزهـا لـلـفـنّـون الـجـمـيـلـة والـتّـراث، وحـتّى عـام 1999 الّـذي أقـيـم لـه فـيـهـا مـعـرضـه الـشّـخـصي : "عـشـر سـنـوات وثـلاثـة أمـكـنـة".

 ويـتـكـلّـم عـن عـشـقـه لـلـمـاء في نـصّ "الـنّـهـر وأنـا". ونـلاحـظ أن فـنّـانـنـا يـسـتـعـمـل دائـمـاً هـذا الـنّـوع مـن الـتّـراكـيـب الّـذي جـاءه ولا شـكّ مـن قـراءتـه لـلّـغـات الأجـنـبـيـة، بـدلاً مـن الإسـتـعـمـال الـعـربي : "أنـا والـنّـهـر".

ونـتـابـع في نـصّ "حـكـايـة الـجـرذ الّـذي أكـل لـوحـاتي في بـغـداد" الـنّـتـائـج الـرّهـيـبـة لـحـرب الـخـلـيـج الـثّـانـيـة في 1991، وعـن الـتـهـام الـجـرذان لأعـمـالـه الـفـنّـيـة ومـا بـقي في داره الـبـغـداديـة بـعـد تـركـه لـهـا.
ويـقـصّ عـلـيـنـا في "حـكـايـة الـعـسـل الـمـرّ" تـفـاصـيـل فـتـرة تـدريـسـه في جـامـعـة الـيـرمـوك في مـديـنـة إربـد الأردنـيـة وعـن عـلاقـاتـه بـزمـلائـه وطـلّابـه. ويـنـتـهي الـكـتـاب بـنـصّ "مـتى عـرفـت الـبـصـرة وأبـو الـخـصـيـب".

وتـتـراكـب في أذهـانـنـا فـتـرات حـيـاة الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري ومـسـيـرتـه الـفـنّـيـة الّـتي قـرأنـاهـا مـجـزأة في صـفـحـات الـكـتـاب، لـتـشـكّـل كـلّاً مـتـكـامـلاً، نـتـابـعـه فـيـه مـنـذ طـفـولـتـه وإلى نـهـايـة حـيّـاتـه.

ولا شـكّ في أنّ هـذا الـكـتـاب إضـافـة مـهـمّـة إلى كـلّ مـا نـشـر عـن الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري مـن مـقـالات وكـتـب، يُـحـسّـن مـعـرفـتـنـا بـظـروف إنـتـاج أعـمـالـه الـفـنّـيـة وبـتـنـامي تـقـنّـيـاتـه الـفـنّـيـة وأسـالـيـبـه. ويـعـود الـفـضـل في ذلـك إلى الـجـهـود الـهـائـلـة الّـتي تـبـذلـهـا زوجـتـه الـكـاتـبـة والـشّـاعـرة ونـاقـدة الـفـنّ الـكـبـيـرة مي مـظّـفـر، فـهي تـكـرّس أغـلـب أوقـاتـهـا لـلـتـعـريـف بـه وبـفـنّـه.

 ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  لـم يـكـن  اخـتـيـاره لـلإسـم اعـتـبـاطـيـاً لأنّ أحـمـد الـبـنـدر كـان مـن أسـلاف فـنّـانـنـا.

jeudi 14 novembre 2019

أسـالـيـب سـامـراء الـفـنّـيـة في الألـفـيـن الـسّـادس والـخـامـس قـبـل الـمـيـلاد

                                                                                                                                            
 

الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري

عـصـور مـا قُـبـيـل الـتّـاريـخ :

بـعـد أن انـتـهـت الـفـتـرة الـجـلـيـديـة الـرّابـعـة تـغـيّـر الـطّـقـس في الـشّـرق الأدنى بـيـن الألـف الـثّـاني عـشـر قـبـل الـمـيـلاد والألـف الـعـاشـر، مـمـا نـتـج عـنـه ذوبـان الـجـلـيـد الّـذي كـان يـغـطّي سـطـح الأرض، ونـمـو نـبـاتـات كـثّـة وشـجـيـرات فـواكـه، كـمـا نـتـج عـنـه تـكـاثـر الـحـيـوانـات.

ونـتـج عـن هـذه الـتّـحـوّلات أيـضـاً ظـهـور أنـواع جـديـدة مـن الـحـيـوانـات مـثـل الـغـنـم والـمـاعـز والـخـنـازيـر والـحـمـيـر بـأنـواعـهـا الـبـرّيّـة، أي الـوحـشـيـة، وأنـواع بـرّيـة مـن الـحـبـوب كـالـشّـعـيـر والـقـمـح والـعـدس ... نـمـت بـطـريـقـة طـبـيـعـيـة.

وسـاد الـصّـيـد بـكـلّ أنـواعـه كـمـصـدر مـهـمّ مـن مـصـادر الـغـذاء لـلإنـسـان، وكـان يـمـارسـه خـاصّـة الـرّجـال، بـيـنـمـا تـكـرّس الـنّـسـاء أغـلـب أوقـاتـهـنّ لـجـمـع الـحـبـوب بـصـحـبـة أطـفـالـهـنّ. وتـجـمّـعـت كـلّ عـائـلـة، بـعـد أن تـوسّـعـت وازدادت أعـداد أفـرادهـا، في مـسـاكـن مـسـتـقـرّة. وتـوصّـلـوا إلى تـخـزيـن بـعـض مـا يـصـيـدون مـن لـحـوم بـتـجـفـيـفـهـا وبـعـض مـا يـجـمـعـون مـن حـبـوب بـاخـتـراع أولى أنـواع الـسّـلال والـصّـنـاديـق.

 وبـيـن الألـفـيـن الـتّـاسـع والـثّـامـن قـبـل الـمـيـلاد ظـهـرت تـجـمـعـات سـكّـانـيـة تـضـمّ عـدّة عـوائـل مـخـتـلـفـة، وبـدأ تـدجـيـن الـحـيـوانـات. وبـعـد أن كـانـت الـحـبـوب الـبـرّيّـة والـفـواكـه الـجّـافـة تـجـمـع فـقـط، شُـرع في بـذرهـا وحـصـادهـا. وكـانـت هـذه أولى مـحـاولات الـزّراعـة.

ولا شـكّ في أنّ هـذه الـتّـحـوّلات الّـتي نـتـجـت عـن تـغـيّـر أحـوال الـطّـقـس قـد حـدثـت في عـدّة أمـاكـن وفي فـتـرات زمـنـيـة مـتـقـاربـة. ووجـد الـمـنـقّـبـون آثـارهـا في عـدّة مـواقـع في شـمـال الـعـراق والـمـنـاطـق الـمـجـاورة، مـثـل مـوقـع  شـانـيـدار عـلى الـزّاب الـكـبـيـر.

وقـد وجـدت في مـواقـع عـلى ضـفـاف الـفـرات تـعـود إلى الألـف الـتّـاسـع قـبـل الـمـيـلاد أولى الـرّسـوم الـجـداريـة في الـشّـرق الأوسـط وبـأشـكـال هـنـدسـيـة، كـمـا وجـدت فـيـهـا أطـبـاق وصـحـون طـيـنـيـة فُـخـرت قـلـيـلاً، تـعـدّ مـن أقـدم مـا عـثـر عـلـيـه في الـمـنـطـقـة مـن فـخـاريـات.

"ثـقـافـات" مـا قُـبـيـل الـتّـاريـخ وفـخـاريـاتـهـا :

وسـادت في نـهـايـة الألـف الـثّـامـن قـبـل الـمـيـلاد، وفي كـلّ مـنـاطـق الـشّـرق الأدنى، وخـاصـة في مـا بـيـن دجـلـة والـفـرات، طـرق الإنـتـاج الّـتي اخـتـرعـت في الـعـصـر الـحـجـري الـحـديـث (1). وبـدأ فـيـهـا صـنـع الـفـخـاريـات، وانـتـشـر اسـتـعـمـالـهـا.

ويـمـكـن لـلـمـخـتـصّـيـن الآن، الـتـمـيـيـز بـيـن ثـلاث فـتـرات أو "ثـقـافـات" حـسـب أشـكـال فـخـاريـاتـهـا والـرّسـوم الـمـنـقـوشـة عـلـيـهـا. وقـد أسـمـيـت هـذه الـفـتـرات بـأسـمـاء الـمـواقـع الّـتي عـثـر عـلـيـهـا فـيـهـا في الـبـدايـة، أي لأوّل مـرّة.

وقـد وجـد في شـمـال بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن فـتـرتـان هـمـا  "فـتـرة تـلّ حـسّـونـة" و" فـتـرة سـامـراء"، نـعـرف الآن أنّـهـمـا تـبـعـتـا فـتـرة أقـدم مـنـهـمـا وجـدت أولى آثـارهـا في أمّ الـدّبّـاغـيـة (2).

كـمـا نـمـا عـلى الـسّـاحـل الـسّـوري إنـتـاج لـلـفـخـاريـات في الألـف الـسّـابـع قـبـل الـمـيـلاد نـتـج عـنـه بـعـد ذلـك أسـلـوب تـلّ حـلـف الّـذي سـاد في الألـف الـسّـادس قـبـل الـمـيـلاد. وازدهـرت في جـنـوب مـا بـيـن الـنّـهـريـن "ثـقـافـة" مـخـتـلـفـة تـعـرف بـاسـم "فـتـرة الـعُـبـيـد".

وكـانـت "ثـقـافـات" كـلّ هـذه الـفـتـرات حـضـريـة، تـمـارس فـيـهـا الـزّراعـة وتـربـيـة الـمـواشي والـدّواجـن. وقـد تـطـوّرت كـل واحـدة مـنـهـا بـطـرق مـخـتـلـفـة قـلـيـلاً عـن الأخـريـات.

فـتـرة سـامـراء :

كـان الألـمـاني إرنـسـت هـيـرتـسـفـيـلـد  Ernst Herzfeld  أوّل مـن وجـد، خـلال تـنـقـيـبـاتـه في سـامـراء مـن 1911 إلى 1913، آثـار هـذه الـفـتـرة في قـبـور تـحـت طـبـقـات الـفـتـرة الـعـبـاسـيـة، أي أقـدم مـنـهـا بـزمـن طـويـل.  

وتـمـتـدّ "ثـقـافـة سـامـراء" عـلى مـسـاحـات واسـعـة تـجـتـاز حـدود الـعـراق الـحـالـيـة نـحـو سـلاسـل جـبـال تـركـيـا، وأوّل مـا وجـد مـنـهـا فـخـاريـاتـهـا. وقـد وجـدت فـخـاريـات مـن "أسـالـيـب سـامـراء" في تـلّ الـصّـوّان، في جـنـوب مـديـنـة سـامـراء، وفي تـلّ شـمـشـرة شـرق أربـيـل، وفي مـنـطـقـة مـنـدلي ومـواقـع أخـرى. ويـدلّ انـتـشـارهـا الـواسـع عـلى تـجـارة نـامـيـة لـمـنـتـوجـات مـصـنـعـة بـأعـداد كـبـيـرة.

كـمـا وجـدت في مـوقـع تـلّ الـصّـوان أقـدم دلائـل عـلى اسـتـعـمـال الـرّي في الـزّراعـة، والّـتي تـعـود إلى الألـف الـسّـادس قـبـل الـمـيـلاد، وبـظـهـور اسـتـعـمـال الـلِـبـن الـمـصـنـوع بـقـوالـب في الـبـنـاء.

ولـم يـتّـفـق الـمـخـتـصّـون في حـضـارات الـعـراق الـقـديـم عـلى تـحـديـد دقـيـق لـتـأريـخ هـذه الـفـتـرة، فـمـنـهـم مـن يـسـتـعـمـل مـا يـسـمى بـ "الـتّـأريـخ الـطّـويـل" أي يـدفـعـون الأحـداث في أقـدم مـاضٍ يـحـتـمـلـه الـسّـيـاق، ومـنـهـم مـن يـسـتـعـمـلـون "الـتّـأريـخ الـقـصـيـر"، والـمـدافـعـون عـنـه يـقـصّـرون الـفـتـرات ويـقـربـونـهـا بـأكـثـر مـا يـمـكـنـهـم مـن بـدايـة الـتّـاريـخ. والّـذيـن لا يـريـدون الـمـبـالـغـة في قـدم الـفـتـرات أو في حـداثـتـهـا يـسـتـعـمـلـون مـا يـسـمى بـ "الـتّـأريـخ الـمـتـوسِّـط". وهـكـذا نـجـد في الـدّراسـات تـواريـخ تـتـراوح بـيـن 6200 سـنـة أي الألـف الـسّـابـع قـبـل الـمـيـلاد وبـيـن الألـف الـخـامـس بـيـن الـمـيـلاد.

والـتّـواريـخ الّـتي أذكـرهـا في هـذا الـعـرض الـسّـريـع نـسـبـيـة يـمـكـن مـنـاقـشـتـهـا.

مـنـحـوتـات "فـتـرة سـامـراء" الـصّـغـيـرة :

وجـدت في الـمـواقـع الّـتي تـأثّـرت بـ"ثـقـافـة سـامـراء" تـمـاثـيـل صـغـيـرة مـن الـحـجـر أو مـن الـصّـلـصـال وبـأشـكـال مـتـنـوّعـة. وتـمـثّـل أغـلـبـيـتـهـا نـسـاءً واقـفـات أو جـالـسـات. ونـادراً مـا تـمـثّـل رجـالاً.


ويـحـتـفـظ مـتـحـف الـلـوفـر في بـاريـس بـتـمـثـال صـغـيـر مـن الـحـجـر الـمـرمـري (ارتـفـاعـه 5،4 سـم.) وجـد في تـلّ الـصّـوان جـنـوب سـامـراء. ويـعـتـقـد الـمـخـتـصـون أنّـه يـعـود إلى أواخـر الألـف الـسّـابـع قـبـل الـمـيـلاد. وهـو يـمـثّـل امـرأة بـصـورة تـجـريـديـة مـتـكـامـلـة مـتـنـاسـقـة الأجـزاء بـديـعـة الـتّـكـويـن :

وقـد وجـد الـمـنـقّـبـون في الـطّـبـقـة الـثّـانـيـة تـلّ الـصّـيـوان قـرب سـامـراء، والّـتي يـعـود تـاريـخـهـا إلى حـوالي سـتّـة آلاف سـنـة قـبـل الـمـيـلاد، تـمـثـالاً صـغـيـراً مـن الـصّـلـصـال الـمـفـخـور ارتـفـاعـه 11 سـم. ونـصـف، يـمـثّـل امـرأة جـالـسـة. وقـاعـدتـه مـسـطّـحـة تـسـتـنـد عـلـيـهـا قـدمـا الـمـرأة وأسـفـل الـمـقـعـد الّـذي تـجـلـس عـلـيـه. ورأس الـمـرأة صـغـيـر ألـصـقـت عـلـيـه عـيـنـان بـارزتـان مـشـقـوقـتـان تـشـبـهـان حـبـتَـيـن مـن الـبُـن، وأذنـان صـغـيـرتـان، كـمـا ألـصـق عـلى صـدرهـا ثـديـان صـغـيـران. وألـصـقـت حـول عـنـقـهـا قـلادة مـن صـلـصـال مـفـتـول. والـتّـمـثـال فـريـد مـن نـوعـه، لـم يـوجـد لـه مـثـيـل في مـوقـع آخـر :

ويـعـتـقـد بـعـض الـمـخـتـصّـيـن أنّـه ربّـمـا يـمـثّـل "الإلـهـة الأم"، وهي إلـهـة الـخـصـب الّـتي يـذكـرهـا مـؤرخـو الـفـنّ كـلّـمـا عـجـزوا عـن الـتّـعـرف عـلى مـغـزى تـمـثـال مـا. والـمـشـكـلـة هي أنـنـا لا نـعـرف بـالـضّـبـط مـا هي "الإلـهـة الأمّ" ولا مـا هي صـفـاتـهـا.

وغـالـبـاً مـا تـعـلـو رؤوس الـنّـسـاء تـسـريـحـات شـعـر تـمـتـدّ مـرتـفـعـة تـتـخـلـلـهـا قـطـع مـن الـقـار، وتـبـدو هـذه الـرؤوس كـمـا لـو كـانـت مـسـتـطـيـلـة. وغـالـبـاً مـا تـمـلأ أعـيـنـهـنّ الـواسـعـة الإنـفـتـاح بـالـقـار الّـذي يـطـعّـم بـالأحـجـار أو بـالـصّـدف أو بـالـرّصـاص.

وقـد وجـد في تـلّ الـصّـوان، جـنـوب سـامـراء، تـمـثـال لامـرأة مـن الـحـجـر الـمـرمـري يـعـود إلى مـنـتـصـف الألـف الـسّـادس :



وتـمـثـال لامـرأة واقـفـة حـول عـنـقـهـا قـلادة مـن الـفـيـروز :


وتـمـثـال مـن الـحـجـر الـمـرمـري لامـرأة مـتـربّـعـة في جـلـوسـهـا (ارتـفـاعـهـا  3،8 سـم.) حـول عـنـقـهـا قـلادة مـن الـفـيـروز :

وتـمـثـال صـغـيـر (ارتـفـاعـه 6،7 سـم.) مـن الـصّـلـصـال الـمـفـخـور لـرجـل جـالـس رسـمـت عـلـيـه مـلابـسـه وحـاجـبـاه، يـعـود إلى مـنـتـصـف الألـف الـسّـادس :

وقـد اسـتـمـرّت طـرق تـمـثـيـل الـعـيـنـيـن هـذه فـتـرة طـويـلـة بـعـد ذلـك وإلى بـدايـة الـتّـاريـخ، فـقـد اسـتـعـمـلـهـا الـسّـومـريـون بـعـد مـا يـقـارب ثـلاثـة آلاف عـام بـعـد ذلـك.

ووجـدت كـذلـك تـمـاثـيـل صـغـيـرة بـرؤوس مـسـتـطـيـلـة وبـأعـيـن بـارزة مـشـقـوقـة تـشـبـه "حـبّـات الـبُـن" ألـصـقـت عـلى وجـوهـهـا. وهي تـشـبـه إلى حـدّ مـا الـتّـمـاثـيـل الّـتي عـثـر عـلـيـهـا في الـمـواقـع الّـتي تـعـود إلى فـتـرة الـعُـبـيـد.

فـخـاريـات "فـترة سـامـراء" :

وتـتـمـيّـز هـذه الـفـتـرة بـإنـتـاج فـخـاريـات أفـضـل نـوعـيـة مـن فـخـاريـات الـفـتـرات الـسّـابـقـة : أي أشـدّ رقّـة وصـلابـة.  وألـوانـهـا، مـثـلـهـا مـثـل فـخـاريـات فـتـرة حـسّـونـة الّـتي تـقـتـرب مـنـهـا زمـنـيـاً، عـسـلـيـة وسـكّـريـة. وتـأتي هـذه الألـوان مـن درجـات الـحـرارة الّـتي اسـتـعـمـلـت في فـخـرهـا. وهي مـخـتـلـفـة عـن ألـوان فـخـاريـات فـتـرة تـلّ حـلـف الّـتي كـانـت دائـمـاً بـرتـقـالـيـة أو تـضـرب إلى الـحـمـرة.

وتـسـتـعـمـل كـصـحـون وأوعـيـة وأطـبـاق وزبـديـات وطـاسـات وكـؤوس وجـرار ... وهي فـخـاريـات صـنـعـت بـالـيـد عـلـيـهـا رسـوم بـالأسـود الّـذي يـمـيـل قـلـيـلاً أو كـثـيـراً إلى الـبـنـفـسـجـيـة أو بـالأحـمـر أو بـالـبـنّي. وغـالـبـاً مـا تـكـون هـذه الألـوان كـامـدة لا لـمـعـان فـيـهـا، عـلى خـلـفـيـات مـصـقـولـة بـعـنـايـة بـالـغـة.

ونـفّـذت رسـومـهـا بـأسـالـيـب تـصـويـريـة خـاصّـة بـهـا عـلى درجـة عـالـيـة مـن الـتّـجـريـد، أي اسـتـخـلاص مـا هـو أسـاسي في الـصّـورة وتـرك الـجـزئـيـات الـثّـانـويـة. وهـذه الأسـالـيـب أكـثـر تـنـوّعـاً وجـمـالـيـة وتـنـاسـقـاً مـن سـابـقـاتـهـا.  

وأوّل مـا كـانـت هـذه الـرّسـوم خـطـوطـاً أفـقـيـة أو عـمـوديـة أو مـتـقـاطـعـة أو مـتـلـوّيـة أو مـتـعـرّجـة أو مـتـمـوّجـة أو درجـات سـلّالـم صـاعـدة أو نـازلـة أو "أصـلـبـة مـعـقـوفـة"... إلـخ.  




ثـمّ تـكـويـنـات هـنـدسـيـة : مـربـعـات ومـثـلـثـات ومـسـتـطـيـلات ودوائـر ...  






ثـمّ مـزج بـيـن هـذه الأشـكـال الـبـسـيـطـة وبـيـن تـكـويـنـات أكـثـر تـعـقـيـداً لـحـيـوانـات ونـبـاتـات وأشـكـال بـشـريـة.

وقـد تـوصّـل فـنـانـو "فـتـرة سـامـراء" إلى اخـتـزال أشـكـال حـيـوانـات كـالـمـاعـز والـغـزلان والـوعـول وتـحـويـلـهـا إلى تـكـويـنـات أسـاسـيـة رائـعـة الـجـمـال تـنـبـض بـالـحـركـة وتـحـيـا أمـام أعـيـنـنـا بـمـهـارة لا مـثـيـل لـهـا.

ونـجـد مـثـلاً أربـعـة وعـول أو تـيـوس جـبـلـيـة (أو هـل هي مـاعـز أطـال الـفـنّـانـون قـرونـهـا لـخـلـق الـحـركـة الـدائـريـة ؟) واخـتـصـرت أجـسـادهـا في مـثـلـثـات في داخـلـهـا مـثـلـثـات تـتـراكـض مـتـراقـصـة مـتـتـابـعـة حـول جـذع شـجـرة، (أم هـل هي بـركـة مـاء جـاءوا يـشـربـون مـنـهـا ؟) واخـتـزلـت مـربـعـاً في داخـلـه مـربّـعـات :

ولا نـدري هـل نـتـج عـن هـذا الـتّـكـويـن الـمـركّـب هـذا الـتّـكـويـن الـمـجـرد، أم انـطـلـق مـنـه ؟ :

وإن كـنّـا لا نـعـرف الـمـسـيـرة الـفـنّـيـة لـرسـامي سـامـراء : هـل بـدأوا بـالأشـكـال الـمـجـرّدة قـبـل أن يـتـوصّـلـوا إلى الـتـراكـيـب الـمـخـتـزلـة، أم انـتـهـوا بـهـا ؟ فـإنّ الـمـؤكّـد هـو أنّ الأشـكـال الـمـجـردة والـتّـكـويـنـات الـمـخـتـزلـة اسـتـعـمـلـت مـعـاً وفي نـفـس الـوقـت لـمـدة قـرون طـويـلـة.

وتـواجـهـنـا مـشـكـلـة الإخـتـزال والـتّـجـريـد ومـن سـبـق مـنـهـمـا الآخـر في تـصـاويـر "شـرائـط الـنّـسـاء"، فـهـل بـدأ فـنـانـو سـامـراء بـهـذه الأشـكـال الـمـجـردة :


لـيـتـوصّـلـوا إلى هـذه الـتّـراكـيـب الـمـخـتـزلـة ؟ أم الـعـكـس ؟ :


ويـحـتـفـظ مـتـحـف بـرلـيـن بـطـبـق (قـطـره 29 سـم.) اخـتـزل فـيـه جـسـدا حـيـوانـيـن إلى أنـبـوبـيـن يـدور الـواحـد مـنـهـا الـواحـد مـقـابـل الآخـر :

كـمـا وجـد صـحـن آخـر فـيـه خـمـسـة يـمـتـزج الـواحـد مـنـهـا بـمـن أمـامـه ومـن خـلـفـه :

وآخـر يـصـوّر أربـعـة طـيـور مـاء بـأعـنـاق مـتـلـوّيـة وأجـنـحـة طـويـلـة الـرّيـش يـصـطـاد كـلّ مـنـهـا سـمـكـة يـقـبـض عـلـيـهـا بـمـنـقـاره بـيـنـمـا تـدور حـولـهـا ثـمـانـيـة أسـمـاك تـبـتـعـد بـأسـرع مـا يـمـكـنـهـا :


وطـيـور مـؤسـلـبـة وأسـهـم (رؤوس نـبـال) بـأسـلاك شـائـكـة رسـمـت بـالـلـون الـبـنّي عـلى خـلـفـيـة فـاتـحـة وسـط صـحـن فـخـاري عـثـر عـلـيـه بـيـن الـطّـبـقـة الـثّـالـثـة والـخـامـسـة مـن تـلّ الـصّـوان، أي يـعـود إلى حـوالي مـنـتـصـف الألـف الـسّـادس قـبـل الـمـيـلاد (قـطـره : 30 سـم. وعـمـقـه : 8،2 سـم.) ونـقـشـت عـلى حـافـتـه أشـكـال هـنـدسـيـة :

ونـجـد حـيـوانـات يـتـبـع الـواحـد مـنـهـا الآخـر، تـتـمـاوج قـرونـهـا وسـط "صـحـن الـوعـول"، تـحـيـطـهـا أشـكـال شـبـه هـنـدسـيـة. وقـد وجـد الـصّـحـن في الـطّـبـقـة الـرّابـعـة مـن سـامـراء، والّـتي يـعـود تـاريـخـهـا إلى مـنـتـصـف الألـف الـسّـادس قـبـل الـمـيـلاد، قـطـره 24،9 سـم. وارتـفـاع حـوافـه 8،1 سـم. وتـتـراوح ألـوان رسـومـه بـيـن الأحـمـر والـبـنّي. وكـان قـد كـسـر في زمـنـه الـقـديـم لأنـنـا نـرى عـلـيـه ثـقـوبـاً اسـتـعـلـمـت لـربـط أجـزائـه الـمـكـسـورة :

وقـد تـمـثّـل أحـيـانـا أشـكـالاً مـؤسـلـبـة بـالـغـة "الـدّيـنـامـيـكـيـة" وبـحـركـات دائـريـة "راقـصـة" لـنـسـاء تـتـطـايـر شـعـورهـنّ الـمـتـمـوّجـة في الـرّيـح، تـحـيـط بـهـنّ ثـمـاني عـقـارب تـدور حـولـهـنّ :


أو خـمـس عـقـارب تـدور بـيـنـهـا مـيـاه تـجـري حـول "صـلـيـب مـعـقـوف" :

وقـد وجـد في تـلّ الـصّـوان الـجـزء الأعـلى مـن جـرّة مـن الـفـخـار تـعـود إلى الألـف الـسّـادس قـبـل الـمـيـلاد، لـم يـوجـد مـثـلـهـا إلّا نـادراً في الـمـواقـع الأخـرى. ويـمـثّـل جـزء الـجـرّة وجـه رجـل رسـم بـأشـكـال أغـلـبـهـا هـنـدسـيـة، وخـاصّـة مـثـلـثـات رؤوسـهـا الـمـدبـبـة نـحـو الأعـلى، وبـألـوان تـتـراوح بـيـن الـبـنّي الـغـامـق والأسـود الـكـامـد. ورغـم أنّـهـا تـعـود إلى الـطـبـقـة الـرّابـعـة مـن فـتـرة حـسّـونـة أي أحـدث قـلـيـلاً مـن فـتـرة سـامـراء فـهي قـريـبـة مـنـهـا. (قـطـر الـجـزء الـبـاقي : 8،7 سـم. وارتـفـاعـه : 14،2 سـم.)  :

ويـمـكـنـنـا أن نـتـسـاءل كـمـا تـسـاءل قـبـلـنـا عـدد مـن الـمـخـتـصـيـن بـهـذه الـفـتـرات الـضّـاربـة في غـيـاهـب مـا قُـبـيـل الـتّـاريـخ عـن مـغـزي هـذه الـتّـكـويـنـات الـبـسـيـطـة والـمـركـبـة، الـبـالـغـة الـجـمـال والـشّـديـدة الـتّـنـوع، هـل رسـمـهـا فـنّـانـو سـامـراء، مـثـلـهـم مـثـل فـنّـاني الـفـتـرات الـسّـابـقـة والـلاحـقـة، لـتـزيـيـن صـحـونـهـم فـقـط ؟ أم أنّـهـا تـتـضـمّـن رمـوزاً لـمـعـتـقـدات روحـيـة أو ديـنـيـة ؟ أو ربّـمـا هي تـرجـمـات بـصـريـة لأسـاطـيـر لـم تـصـلـنـا نـصـوصـهـا لأنّـهـا ضـاعـت مـن ذاكـرة الـبـشـريـة قـبـل أن تـخـتـرع الـكـتـابـة ألـفـيـن أو ثـلاثـة آلاف سـنـة بـعـد ذلـك ؟

ولـكـنّ مـا لا شـكّ فـيـه هـو أنّ نـوعـيـتـهـا الـعـالـيـة الإتـقـان ورسـومـهـا الـرّائـعـة الـجـمـال جـعـلـتـا مـنـهـا سـلـعـاً ثـمـيـنـة اشـتـدّ عـلـيـهـا الـطّـلـب، ونـتـج عـنـه تـصـنـيـعـهـا بـأعـداد كـبـيـرة وانـتـشـارهـا في مـنـاطـق مـتـبـاعـدة مـن الـشّـرق الأدنى. وهـو مـا يـدلّ عـلى ارتـفـاع الـمـسـتـوى الـمـهـني لـلـفـخّـاريـن الّـذيـن أنـتـجـوهـا والـمـسـتـوى الـفـنّي الـعـالي لـلـنّـقـاشـيـن الّـذيـن نـفّـذوا رسـومـهـا.

ــــــــــــــــــــــــ

(1)  أي الـعـصـر الـحـجـري الـحـديـث الّـذي بـدأ فـيـه اسـتـعـمـال الـنّـحـاس ثـمّ الـبـرونـز ثـمّ الـحـديـد. ويـسـتـعـمـل الـمـؤرّخـون في الـكـلـمـات عـنـهـا تـعـابـيـر : "عـصـر الـنّـحـاس" أو "كـالـكـولـيـتـك  Chalcolithic "، و"عـصـر الـبـرونـز" و"عـصـر الـحـديـد".

(2)  مـوقـع أمّ الـدّبّـاغـيـة في شـمـال غـرب الـعـراق، عـلى جـبـل سـنـجـار، غـرب مـوقـع مـديـنـة الـحـضـر.


©حـقـوق الـنّـشـر مـحـفـوظـة لـلـدّكـتـور صـبـاح كـامـل الـنّـاصـري 

يـرجى طـلـب الإذن مـن الـكـاتـب قـبـل إعـادة نـشـر هـذا الـمـقـال.