vendredi 22 novembre 2019

كـتـاب جـديـد لـلـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري



 
 
 

يـمـتـاز الـفـنّـان الـمـبـدع الأصـيـل عـلـيـنـا، نـحـن الـنّـاس الـعـاديـيـن، بـقـدرتـه عـلى تـخـطي الـحـدود بـيـن عـالـمـنـا الـزّائـل وبـيـن الأزلـيـة، وعـلى الـتّـجـوّل بـيـنـهـمـا.

وقـد عـاد إلـيـنـا الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري لـيـقـصّ عـلـيـنـا أجـزاءً مـن سـيـرتـه ومـسـيـرتـه الـفـنّـيـة، بـعـد أن كـان قـد رحـل عـنّـا إلى الأبـديـة في أواخـر عـام 2013.

ومـثـل الـمـسـافـر الّـذي يـفـتـح لـنـا حـقـائـبـه الـمـلـيـئـة بـالـعـجـائـب بـعـد عـودتـه مـن سـنـوات الـغـربـة الـطّـويـلـة، يـعـود إلـيـنـا رافـع الـنّـاصـري بـمـقـالات كـان قـد كـتـبـهـا مـنـذ سـنـوات ولـم يـنـشـر أغـلـبـهـا.

ونـقـضي سـاعـات طـويـلـة نـسـتـمـع فـيـهـا لـصـوت فـنّـانـنـا يـحـكي لـنـا أطـرافـاً مـن تـجـاربـه الـحـيـاتـيـة والـفـنّـيـة ولـقـهـقـهـاتـه الـمـرحـة، مـنـذ أن نـفـتـح الـكـتـاب وإلى أن نـنـتـهي مـنـه ونـغـلـقـه. وربّـمـا عـدنـا لـنـفـتـحـه عـلى فـصـل مـا، فـيـعـود الـسّـحـر، وتـداعـب نـغـمـات صـوت فـنّـانـنـا آذانـنـا مـن جـديـد، ونـدخـل في كـتـابـه كـمـا تـعـوّدنـا أن نـدخـل في لـوحـاتـه كـلّـمـا وقـفـنـا أمـامـهـا، نـتـأمّـلـهـا ونـنـزلـق في أجـوائـهـا ونـسـيـر في أعـمـاقـهـا مـبـهـوريـن.

 
"خـمـسـون عـامـاً بـيـن الـشّـرق والـغـرب" :

وقـد جـمـعـت هـذه الـمـقـالات زوجـة الـفـنّـان، الـشّـاعـرة والـكـاتـبـة ونـاقـدة الـفـنّ الـكـبـيـرة مي مـظـفّـر في كـتـاب اخـتـارت لـه عـنـوان : "خـمـسـون عـامـاً بـيـن الـشّـرق والـغـرب"، مـع أنّ تـجـوال الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري بـيـن الـشّـرق والـغـرب دام أكـثـر مـن هـذا بـكـثـيـر، فـعـلاقـاتـه الـجـغـرافـيـة بـالـعـالـم الـواسـع بـدأت بـوصـولـه إلى الـصّـيـن عـام 1959، عـنـدمـا كـان في الـتّـاسـعـة عـشـرة مـن عـمـره. وتـعـود عـلاقـاتـه الـثّـقـافـيـة بـه إلى بـدايـة دراسـتـه في مـعـهـد الـفـنـون الـجـمـيـلـة في بـغـداد عـام 1956 عـلى أيـدي أسـاتـذة أكـمـلـوا تـعـلـيـمـهـم في أوربـا.

ويـحـوي الـكـتـاب، الّـذي صـدر عـن الـمـؤسـسـة الـعـربـيـة لـلـدّراسـات والـنّـشـر في مـنـتـصـف عـام  2019، 242 صـفـحـة بـالـقـطـع الـمـتـوسّـط اخـتـارت لـهـا الـنّـاشـرة عـدداً مـن الـصّـور بـالأبـيـض والأسـود. وأضـافـت في آخـر الـكـتـاب 24 صـفـحـة بـالـورق الـصّـقـيـل وبـالألـوان لـبـعـض لـوحـات الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري ولـصـوره الـفـوتـوغـرافـيـة ولـلـوحـات فـنّـانـيـن عـراقـيـيـن آخـريـن.

وقـد كـتـبـت  زوجـة الـفـنّـان الأديـبـة مي مـظـفّـر مـقـدمـة لـلـكـتـاب، وقـسّـمـتـه إلى خـمـسـة أقـسـام : رافـع يـتـحـدّث عـن نـفـسـه، حـوارات، تـجـارب عـراقـيـة، تـجـارب عـالـمـيـة، وتـأمـلات وخـواطـر.

وأهـمّ مـقـالات الـكـتـاب ولا شـكّ هي مـا سـجّـلـه الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري عـن حـيـاتـه وعـن مـسـيـرتـه الـفـنّـيـة، أي خـاصّـة في الـقـسـمـيـن الأوّل والـخـامـس. فـهـو يـلـخّـص لـنـا في الـمـقـال الأوّل مـن الـقـسـم الأوّل : "خـمـسـون عـامـاً بـيـن الـشّـرق والـغـرب"، وفي عـشـر صـفـحـات، وبـدقّـة ووضـوح لا مـثـيـل لـهـمـا، تـجـربـتـه الـفـنّـيـة في الـرّسـم والـطّـبـاعـة مـنـذ دخـولـه أكـاديـمـيـة بـكـيـن لـلـفـنـون الـجـمـيـلـة عـام 1959 وحـتّى عـام 2009. وقـراءة هـذا الـمـقـال تـغـني عـن قـراءة كـلّ مـا نـشـر عـنـه حـتّى الآن، فـهـو يـسـتـحـق أن يـبـدأ بـه مـؤرخـو الـفـنّ عـنـدمـا يـكـتـبـون عـنـه.

وتـكـمـل هـذه الـمـقـالـة مـقـالات أخـرى مـثـل : "مـصـادري الـبـصـريـة" الّـتي يـتـكـلّـم فـيـهـا عـن تـجـربـتـه الـغـرافـيـكـيـة الـصّـيـنـيـة في الـحـفـر عـلى الـخـشـب، وعـن تـجـربـتـه الـبـرتـغـالـيـة في الـحـفـر عـلى الـنّـحـاس، وعـن الـفـنّـانـيـن الّـذيـن وقـف طـويـلاً أمـام لـوحـاتـهـم في الـمـتـاحـف الـعـالـمـيـة وأثـروا عـلى ذائـقـتـه الـبـصـريـة.

ويـبـدأ الـقـسـم الـثّـاني مـن الـكـتـاب بـحـوار بـديـع بـيـن الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري وبـيـن بـديـل لـه اخـتـرعـه وأسـمـاه فـوّاز الـبـنـدر (1)، يـجـيـب فـيـه عـلى كـثـيـر مـن الأسـئـلـة الّـتي يـمـكـنـهـا أن تـخـطـر عـلى بـال مـحـبّي فـنّـه.
ويـقـصّ في هـذا الـحـوار قـصّـة لـوحـة "فـتـاة مـن الأهـوار" الـطّـبـاعـيـة الـشّـديـدة الـشّـهـرة، فـقـد ذهـب عـام 1962 إلى أهـوار الـجـبـايـش وطـلـب مـن فـتـاة اسـمـهـا "حـسـنـة"، لا يـتـجـاوز عـمـرهـا الـرّابـعـة عـشـرة، أن تـقـف أمـامـه لـدّقـائـق لـرسـمـهـا فـلـم تـمـانـع. وعـنـدمـا عـاد إلى بـغـداد حـفـر الـلـوحـة وطـبـعـهـا :

 


وقـد وضـعـت زوجـة الـفـنّـان، الأديـبـة مي مـظـفّـر في الـقـسـم الـثّـاني مـن الـكـتـاب : "حـوارات مـنـتـقـاة أجـريـت مـع [فـنّـانـنـا] يـتـطـرّق فـيـهـا إلى جـوانـب مـخـتـلـفـة مـن آرائـه وتـجـاربـه ومـواقـفـه الـشّـخـصـيـة والـفـنّـيـة".

ولا نـجـد في نـصـوص هـذا الـقـسـم الـسّـبـعـة مـا يـسـتـحـق الـقـراءة مـا عـدا حـوار الـفـنّـان مـع نـفـسـه الّـذي تـكـلّـمـنـا عـنـه والـمـقـابـلـة الّـتي أجـرتـهـا هي نـفـسـهـا مـعـه في 2004 ، ونـشـرتـهـا في مـجـلّـة "ألـف". ويـتـمـلـكـنـا الـعـجـب عـنـدمـا نـقـرأ في هـذا الـحـوار كـيـف أنـتـج فـنّـانـنـا في لـشـبـونـة عـام 1968  "ثـلاثـيـن لـوحـة مـن الـحـفـر عـلى الـنّـحـاس وثـلاث لـوحـات مـن الـلـيـثـوغـراف"، وعـرضـهـا في بـغـداد عـام 1969، وفي غـالـري وان في بـيـروت، وفي الـكـويـت عـام 1970. ثـمّ أرسـلـهـا إلى الـقـاهـرة عـام 1972 لإقـامـة مـعـرض شـخـصي فـيـهـا : "ولـم تـخـرج تـلـك الأعـمـال مـن مـكـانـهـا في جـمـارك الـمـطـار رغـم مـحـاولات عـديـدة مـن قـبـل وزارة الـثّـقـافـة، مـع جـهـود الـفـنّـان والـنّـاقـد حـسـن سـلـيـمـان وصـاحـبـة الـغـالـري الـسّـيّـدة روكـسـانـا. وبـقـيـت في الـمـطـار مـجـهـولـة الـمـصـيـر لـغـايـة الـيـوم" !

ويـمـكـنـنـا أن نـضـيـف إلى هـذيـن الـحـواريـن الـمـهـمّـيـن حـواراً آخـر أجـراه مـعـه الـفـنّـان الـبـحـريـني عـبّـاس يـوسـف الّـذي وجـه لـه أسـئـلـة قـصـيـرة تـنـمّ عـن فـهـمـه لـفـنّـه وسـجّـل أجـوبـة فـنّـانـنـا الـمـسـهـبـة عـلـيـهـا.

ونـجـد نـصّـيـن مـهـمّـيـن في الـقـسـم الـثّـالـث : "تـجـارب عـربـيـة". الأوّل مـنـهـمـا "مـدخـل" مـخـتـصـر شـديـد الـوضـوح "إلى نـشـأة الـحـركـة الـفـنّـيـة الـحـديـثـة في الـعـراق". والـثّـاني عـن "فـنّ الـكـرافـيـك الـعـراقي". ونـقـرأ في الـقـسـم الـرّابـع عـدّة نـصـوص عـن "تـجـارب عـربـيـة".

ونـجـد نـصـوص الـفـنّـان السّـرديـة الـمـمـتـعـة والـشّـديـدة الـتّـشـويـق في الـقـسـم الـخـامـس مـن الـكـتـاب والّـذي عـنـونـتـه الـنّـاشـرة : "تـأمـلات وخـواطـر".
فـهـو يـتـكـلّـم في "حـكـايـة سـبـع مـدن في حـيـاتي" عـن طـفـولـتـه وصـبـاه في تـكـريـت، وعـن شـبـابـه في بـغـداد، ثـمّ عـن دراسـتـه في بـكـيـن (الـصّـيـن) وعـن مـمـارسـتـه لـلـحـفـر عـلى الـنّـحـاس في لـشـبـونـة الـبـرتـغـال وعـن مـشـاركـاتـه في فـعـالـيـات الـغـرافـيـك في سـالـزبـورغ الـنّـمـسـا وعـن لـنـدن الّـتي أنـتـج فـيـهـا أعـمـلاً طـبـاعـيـة وعـن بـاريـس الّـتي زارهـا مـراراً وأقـام في مـديـنـة فـنّـهـا الـعـالـمـيـة.

ويـتـمـلـكـنـا الأسـف عـلى أحـوال عـالـمـنـا الـغـريـب عـنـدمـا نـقـرأ خـلال حـديـث فـنّـانـنـا عـن لـنـدن كـيـف تـعـرّف فـيـهـا في صـيـف 1976 عـلى الـفـنّـان الإنـكـلـيـزي هـيـو سـتـونـمـن الّـذي كـان يـمـتـلـك مـحـتـرفـاً لـلـطّـبـاعـة، وكـيـف نـفّـذ أعـمـالاً طـبـاعـيـة في هـذا الـمـحـتـرف كـان آخـرهـا عـام 1989، وهي مـحـفـظـة فـنّـيـة (بـورتـفـولـيـو) تـحـتـوي عـلى خـمـسـة أعـمـال بـعـنـوان "الـخـمـاسـيـة الـشّـرقـيـة" أبـقـاهـا هـنـاك : "لأنـني كـنـت ذاهـبـاً مـبـاشـرة مـن لـنـدن إلى الـصّـيـن بـدعـوة لإقـامـة مـعـرض اسـتـعـادي [...]. وظـلّ مـصـيـر تـلـك الأعـمـال مـجـهـولاً بـعـد أن أصـبـح سـفـرنـا إلى لـنـدن شـبـه مـسـتـحـيـل".

ووضـعـت الأديـبـة مي مـظـفّـر هـامـشـاً تـعـلـمـنـا فـيـه عـن مـصـيـر هـذا الـمـحـفـظـة : "ظـلّ رافـع حـتّى آخـر أيّـامـه يـحـنّ بـأسى إلى تـلـك الأعـمـال الّـتي ظـلّ مـصـيـرهـا مـجـهـولاً في سـنـوات الـحـصـار" إلى أن اسـتـطـاعـت عـام 2014 الـحـصـول عـلى كـمـيـة مـنـهـا :

 


ويـفـصّـل لـنـا فـنّـانـنـا الـكـلام في "حـكـايـة الـمـاء الـمـالـح" عـن عـلاقـاتـه بـالـبـحـريـن الّـتي أقـيـم لـه فـيـهـا مـعـرض شـخـصي عـام 1996، ثـمّ درّس فـيـهـا وعـيّـن مـديـراً لـمـركـزهـا لـلـفـنّـون الـجـمـيـلـة والـتّـراث، وحـتّى عـام 1999 الّـذي أقـيـم لـه فـيـهـا مـعـرضـه الـشّـخـصي : "عـشـر سـنـوات وثـلاثـة أمـكـنـة".

 ويـتـكـلّـم عـن عـشـقـه لـلـمـاء في نـصّ "الـنّـهـر وأنـا". ونـلاحـظ أن فـنّـانـنـا يـسـتـعـمـل دائـمـاً هـذا الـنّـوع مـن الـتّـراكـيـب الّـذي جـاءه ولا شـكّ مـن قـراءتـه لـلّـغـات الأجـنـبـيـة، بـدلاً مـن الإسـتـعـمـال الـعـربي : "أنـا والـنّـهـر".

ونـتـابـع في نـصّ "حـكـايـة الـجـرذ الّـذي أكـل لـوحـاتي في بـغـداد" الـنّـتـائـج الـرّهـيـبـة لـحـرب الـخـلـيـج الـثّـانـيـة في 1991، وعـن الـتـهـام الـجـرذان لأعـمـالـه الـفـنّـيـة ومـا بـقي في داره الـبـغـداديـة بـعـد تـركـه لـهـا.
ويـقـصّ عـلـيـنـا في "حـكـايـة الـعـسـل الـمـرّ" تـفـاصـيـل فـتـرة تـدريـسـه في جـامـعـة الـيـرمـوك في مـديـنـة إربـد الأردنـيـة وعـن عـلاقـاتـه بـزمـلائـه وطـلّابـه. ويـنـتـهي الـكـتـاب بـنـصّ "مـتى عـرفـت الـبـصـرة وأبـو الـخـصـيـب".

وتـتـراكـب في أذهـانـنـا فـتـرات حـيـاة الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري ومـسـيـرتـه الـفـنّـيـة الّـتي قـرأنـاهـا مـجـزأة في صـفـحـات الـكـتـاب، لـتـشـكّـل كـلّاً مـتـكـامـلاً، نـتـابـعـه فـيـه مـنـذ طـفـولـتـه وإلى نـهـايـة حـيّـاتـه.

ولا شـكّ في أنّ هـذا الـكـتـاب إضـافـة مـهـمّـة إلى كـلّ مـا نـشـر عـن الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري مـن مـقـالات وكـتـب، يُـحـسّـن مـعـرفـتـنـا بـظـروف إنـتـاج أعـمـالـه الـفـنّـيـة وبـتـنـامي تـقـنّـيـاتـه الـفـنّـيـة وأسـالـيـبـه. ويـعـود الـفـضـل في ذلـك إلى الـجـهـود الـهـائـلـة الّـتي تـبـذلـهـا زوجـتـه الـكـاتـبـة والـشّـاعـرة ونـاقـدة الـفـنّ الـكـبـيـرة مي مـظّـفـر، فـهي تـكـرّس أغـلـب أوقـاتـهـا لـلـتـعـريـف بـه وبـفـنّـه.

 ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  لـم يـكـن  اخـتـيـاره لـلإسـم اعـتـبـاطـيـاً لأنّ أحـمـد الـبـنـدر كـان مـن أسـلاف فـنّـانـنـا.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire