lundi 16 décembre 2019

بـيـيـر سـولاج والـفـنّ الـسّـومـري


 
 
الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري
 
تـكـلّـمـت لـكـم في عـرض سـابـق : "سـومـر والـفـنّ الـعـالـمي الـحـديـث" (1) عـن انـبـهـار عـدد مـن الـفـنّـانـيـن الـعـالـمـيـيـن بـالـفـنّ الـسّـومـري وتـأثّـرهـم بـه، مـثـل هـنـري مـور Henry Moore  وخـوان مـيـرو Joan Miro’  وألـبـرتـو جـاكـومـتّي  Alberto Giacometti وفـيـلـيـم دي كـونـنـغ Willem de Kooning  وفـيـلي بـاومـايـسـتـر  Willi Baumeister وهـنـري مـيـشـو Henri Michaux ...
وأتـكـلّـم لـكـم هـذا الـيـوم عـن تـأثـيـر الـفـنّ الـسّـومـري عـلى الـفـنّـان الـفـرنـسي بـيـيـر سـولاج  Pierre Soulages، فـقـد خـصـصـت عـدّة مـتـاحـف فـرنـسـيـة مـعـارض لأعـمـالـه بـمـنـاسـبـة عـيـد مـيـلاده الـمـئـوي الّـذي سـيـحـلّ في 24 كـانـون الأوّل، أي بـعـد أيّـام قـلـيـلـة.
نـعـم، سـيـبـلـغ عـمـر بـيـيـر سـولاج مـائـة سـنـة، وبـهـذا سـيـكـون أطـول الـفـنّـانـيـن الأحـيـاء عـمـراً ! ومـا زال يـشـتـغـل في مـرسـمـه !
أطـال الله في أعـمـارنـا لـنـرى مـعـارضـه الـقـادمـة بـعـد عـشـر سـنـوات أو عـشـريـن سـنـة !
ورغـم أنّ أغـلـب قـرّائي يـعـرفـون ولا شـكّ بـيـيـر سـولاج، وقـرأوا عـن الـمـعـارض الّـتي تـقـام لـه، فـسأقـدّم عـرضـاً بـسـيـطـاً وسـريـعـاً لـمـن لـم تُـتِـح لـه مـشـاغـل الـحـيـاة بـعـد الـفـرصـة لـلإطّـلاع عـلـيـهـا وتـذكـيـرهـم بـتـأثـيـر الـفـنّ الـسّـومـري عـلـيـه.
بـيـيـر سـولاج :
ولـد بـيـيـر سـولاج سـنـة 1919 في مـديـنـة روديـز Rodez في وسـط فـرنـسـا.  ووصـل إلى بـاريـس عـام 1938، وكـان في الـثّـامـنـة عـشـرة مـن عـمـره، لـيـحـضّـر امـتـحـان إعـداد مـدرّسي الـرَسـم، ولـيـحـضّـر مـلّـف امـتـحـان الـقـبـول في مـدرسـة الـفـنـون الـجـمـيـلـة (الـبـوزار).
وقـد زار مـتـحـف الـلـوفـر طـبـعـاً ورأى فـيـه لأوّل مـرّة ألـواح الـكـتـابـات الـمـسـمـاريـة وقـطـعـاً مـن مـنـحـوتـات الـفـنّ الـسّـومـري وخـاصّـة تـمـاثـيـل غـوديـا، أمـيـر لـغـش، في صـخـر الـدّيـوريـت الأسـود : (2)
 

ثـمّ عـاد بـيـيـر سـولاج إلى بـاريـس بـعـد عـشـر سـنـوات، أي في عـام 1947، لـيـقـيـم فـيـهـا ويـفـتـح مـرسـمـاً. وقـد ارتـاد فـيـهـا طـبـعـاً مـتـحـف الـلـوفـر وتـأمّـل، وأعـاد تـأمّـل أعـمـال الـسّـومـريـيـن الـفـنّـيـة. (3) وعـرض في "صـالـون بـاريـس الـفـنّي  Le Salon" الـسّـنـوي.
وقـد بـدأ بـيـيـر سـولاج بـالـتّـجـريـد بـدلاً مـن أن يـنـتـهي إلـيـه كـمـا فـعـل أهـمّ فـنّـاني الـتّـجـريـد. وكـان تـجـريـده مـخـتـلـفـاً عـن تـجـريـدهـم الـمـبـني إمّـا عـلى أشـكـال هـنـدسـيـة دقـيـقـة وإمّـا عـلى تـعـبـيـريـة انـفـعـالـيـة عـبـر ضـربـات الـفـرشـاة.
وكـانـت لـوحـاتـه الأولى "فـركـات" فـرشـاة عـريـضـة نـظّـمـهـا في تـكـويـنـات يـمـكـن اسـتـيـعـابـهـا بـكـامـلـهـا مـن أوّل نـظـرة نـلـقـيـهـا عـلـيـهـا. وقـد اسـتـعـمـل فـيـهـا صـبـغـة كـان الـنّـجّـارون يـسـتـعـمـلـونـهـا لـيـشـبّـعـوا بـهـا أخـشـاب الـبـنـاء، يـحـصـلـون عـلـيـهـا بـنـقـع قـشـور الـجـوز الـخـضـراء بـعـد قـطـفـهـا في الـمـاء مـدّة طـويـلـة :   "Le brou de noix"، وتـتـراوح ألـوانـهـا، حـسـب كـثـافـتـهـا، بـيـن الأسـود الـعـمـيـق والـبـنّي والـقـهـوائي والـسّـلـمـوني والـبـرتـقـالي الـفـاتـح. ورسـمـهـا بـفـرشـاة عـريـضـة، مـمـا كـان يـسـتـعـمـلـه صـبّـاغـو الأبـنـيـة، عـلى الـورق أو عـلى الـقـمـاش :
 
 
ولـم تـكـن تـكـويـنـاتـه تـغـطي كـلّ سـطـح الـلـوحـة بـل كـان يـتـرك فـراغـات يـظـهـر مـن خـلالـهـا بـيـاض قـمـاشـهـا الّـذي تـضـيـئـه الألـوان. وبـذلـك يـخـلـق الـضّـوء (لا الإضـاءة، لأنّ الإضـاءة تـأتي مـن خـارج الـلـوحـة، والـضّـوء مـن أعـمـاقـهـا). ثـمّ يُـضئ تـدرّجـات ألـوان صـبـغـة قـشـور الـجـوز الـفـاتـحـة بـتـكـثـيـف تـدرجـاتـهـا الـغـامـقـة وإيـصـالـهـا إلى الـسّـواد :
 
 
وقـد لاحـظ مـعـاصـروه اخـتـلافـه عـنـهـم مـنـذ الـبـدايـة فـأسـمـوه بـ "رسّـام الـسّـواد". والـحـقـيـقـة أنّ هـدفـه لـم يـكـن، ومـنـذ الـبـدايـة، أن يـخـتـصّ بـالـلـون الأسـود، وإنّـمـا أن يـتـوصـل إلى أن يـنـبـثـق الـضّـوء في أعـمـالـه مـن كـثـافـة الـمـادّة. وقـد أكّـد عـدّة مـرّات أن الـلـون الأسـود لـيـس لـه عـنـده أيّـة قـيـمـة رمـزيـة أو دلالات خـاصـة، بـل كـان يـعـتـبـره "الـلـون الأصـلي" الّـذي تـنـتـج عـنـه أضـواء الألـوان الأخـرى.
وقـد اسـتـمـرّ بـيـيـر سـولاج في فـتـرتـه الـثّـانـيـة "يـصـبـغ" لـوحـتـه بـفـرشـاة عـريـضـة وبـحـركـة بـطـيـئـة يـتـحـكّـم بـهـا، فـتـتـرك عـلـيـهـا "مـسـحـات" خـفـيـفـة شـبـه شـفـافـة يـضـيـئـهـا بـيـاض قـمـاش الـلـوحـة، أو يـفـرك الـفـرشـاة فـركـاً قـويـاً وهـو يـمـدّ مـسـاحـة الـلـون حـتّى تـفـرغ الـفـرشـاة في بـعـض أجـزاء الـلـوحـة فـيـتـخـلـلـهـا الـبـيـاض، أو يـلـقي بـطـبـقـات مـتـتـالـيـة مـن الألـوان، الـواحـدة فـوق الأخـرى، يـغـطـيـهـا بـطـبـقـة أخـيـرة مـن الـلـون الأسـود. ثـمّ يـخـفـف طـبـقـة الـسّـواد في بـعـض أجـزائـهـا ويـقـشـط أجـزاءً أخـرى فـتـظـهـر تـحـتـهـا ألـوان تـغـيّـرت بـمـرور الـلـون الأسـود فـوقـهـا :
 

واسـتـعـمـل في فـتـرتـه الـثّـالـثـة والأخـيـرة، والّـتي أسـمـاهـا "مـا بـعـد الأسـود  Outrenoir"، عـلـبـاً كـبـيـرة مـن صـبـغ الأكـرلـيـك الأسـود يـغـطي بـه لـوحـاتـه، الّـتي صـارت واسـعـة الـمـقـايـيـس، بـطـبـقـات تـتـنـوّع كـثـافـتـهـا. ثـمّ يـقـصّ كـثـافـات الـلـون بـآلات حـادّة ويـشـقـقـهـا ويـحـفـر فـيـهـا خـطـوطـاً عـمـوديـة أو أفـقـيـة، مـعـزولـة أو مـتـوازيـة، تـلـتـقـف الـضّـوء فـيـدور في أعـمـاقـهـا ويـسـتـقـرّ في حُـفـرهـا عـنـدمـا نـقـف أمـامـهـا، ثـمّ يـتـحـرّك مـعـنـا عـنـدمـا نـتـحـرّك :
 
 
 ويـدفـعـنـا الـفـضـول لـلإقـتـراب مـنـهـا شـيـئـاً فـشـيـئـاً، لـنـتـأكّـد مـن أنّ بـيـيـر سـولاج لـم يـسـتـعـمـل الـلـون الأبـيـض خـلـسـة لـيـخـدعـنـا، ولـكـنـنـا لا نـجـد إلّا الـسّـواد عـلى الـسّـواد، وإنّ الـضّـوء يـتـنـوّع ويـتـلاعـب تـبـعـاً لـعـمـق الـشّــقـوق الـمـحـفـورة وعـرضـهـا وأمـاكـنـهـا الـواحـد بـجـانـب الآخـر ...
 
 
وعـنـدهـا نـدرك مـا وجـده بـيـيـر سـولاج في تـمـاثـيـل غـوديـا الـمـنـحـوتـة في صـخـر الـدّيـوريـت الأسـود وفي ألـواح الـتّـأسـيـس الـمـنـقـوشـة بـالـمـسـمـاريـة عـلى الـصّـخـر الأسـود ... عـنـدمـا تـأمّـلـهـا وأطـال في تـأمّـلـهـا في مـتـحـف الـلـوفـر، فـقـد وجـد فـيـهـا مـا حـلـم بـه مـنـذ أن أراد دخـول عـالـم الـفـنّ : الـضّـوء الـمـنـبـثـق مـن سـواد أصـل الـكـون.
 
وقـد تـوصّـل بـيـيـر سـولاج إلى أحـدث مـا يـمـكـن أن تـقـدمـه لـنـا الـحـداثـة بـاسـتـيـحـاء واحـد مـن أقـدم مـنـابـع الـفـنّ : الـنّـحّـات الـسّـومـري الّـذي خـطـف الأضـواء لـيـلـقـيـهـا عـلى تـمـاثـيـل أمـيـره غـوديـا في الـصّـخـر الأسـود الـبـالـغ الـصّـقـل، والـتـقـفـهـا في خـطـوطـه الّـتي قـصّـهـا شـقـوقـاً مـحـفـورة تـمـثّـل جـزئـيـات تـمـاثـيـلـه أو في رمـوز الـكـتـابـة الـمـسـمـاريـة في صـيـغـتـهـا الـسّـومـريـة الأولى والّـتي يـنـبـثـق الـضّـوء فـيـهـا مـن عـمـق الـسّـواد :
 
 
وقـد تـخـطّى بـيـيـر سـولاج حـدود ذاتـه، ثـمّ حـدود مـحـلّـيـتـه لـيـبـلـغ الـكـلّ الإنـسـاني ويـسـتـوحي الـنّـحّـات الـسّـومـري الّـذي كـان قـد تـخـطّى، هـو نـفـسـه، حـدود ذاتـه وحـدود مـحـلّـيـتـه الـمـكـانـيـة والـزّمـنـيـة وبـلـغ الـكـلّ الإنـسـاني. (4) ويـسـتـحـقّ الـواحـد مـنـهـمـا والآخـر أن يـسـمى "فـنّـانـاً"، بـأسـمى مـعـاني الـكـلـمـة.

الـمـعـارض :
تـقـيـم عـدّة مـتـاحـف فـرنـسـيـة، كـمـا سـبـق أن ذكـرت، مـعـارض لأعـمـال بـيـيـر سـولاج بـمـنـاسـبـة عـيـد مـيـلاده الـمـئـوي، مـن أهـمّـهـا مـعـرض في "مـتـحـف الـفـنّ الـحـديـث جـورج بـومـبـيـدو"، ومـعـرض في مـتـحـف الـلـوفـر، ومـعـرض في مـتـحـفـه الّـذي شـيـدتـه لأعـمـالـه مـديـنـتـه روديـز، في وسـط فـرنـسـا.
وقـد أعـار مـتـحـف الـلـوفـر لـمـتـحـف روديـز ثـلاث قـطـع أثـريـة مـن مـقـتـنـيـاتـه، لـتـوضـع في الـمـعـرض : لـوح تـأسـيـس مـن الـفـتـرة الـسّـومـريـة الـحـديـثـة مـن الـصّـخـر الأسـود عـلـيـه نـصّ بـالـكـتـابـة الـمـسـمـاريـة :

 
 وكـودورو مـن شـوشـة الّـتي كـانـت مـن أراضي بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن في ذلـك الـزّمـن، وتـمـثـال بـلا رأس وبـدون نـصّ كـتـابي مـنـقـوش لـغـوديـا، أمـيـر لـغـش :

 
وكـنّـا نـوّد لـو أعـار الـلـوفـر تـمـثـالاً لـغـوديـا أكـثـر أهـمـيـة، يـمـثّـل قـدرات الـنّـحـات الـسّـومـري الـهـائـلـة ... ولـكّـنّ زوّار الـمـعـرض يـسـتـطـيـعـون رغـم ذلـك تـكـويـن فـكـرة ولـو بـسـيـطـة عـن تـأثـر بـيـيـر سـولاج بـالـنّـحّـات الـسّـومـري.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  أنـظـر مـقـالي : "سـومـر والـفـنّ الـعـالـمي الـحـديـث" https://almilwana.blogspot.com/2018/09/normal-0-21-false-false-false-fr-x-none.html
(2)  أنـظـر مـقـالي : "مـن تـاريـخ الـنّـحـت الـعـراقي : غـوديـا، أمـيـر لـغـش" https://almilwana.blogspot.com/2018/07/normal-0-21-false-false-false-fr-x-none.html
(3)  إقـتـرح مـؤرخ الـفـنّ بـيـيـر شـنـايـدر عـام 1963، عـلى عـدد مـن الـفـنّـانـيـن أن يـصـطـحـبـهـم إلى مـتـحـف الـلـوفـر لـيـتـكـلّـمـوا لـه عـن الأعـمـال الـفـنّـيـة الّـتي يـحـبّـونـهـا فـيـه. وهـكـذا صـاحـب خـوان مـيـرو وألـبـرتـو جـاكـومـتّي وسـام فـرنـسـس وفـيـيـرا دا سـيـلـفـا وبـيـيـر سـولاج ... وقـد قـاده بـيـيـر سـولاج إلى آثـار الـشّـرق الأدنى : الـجـزيـرة الـعـربـيـة وبـلاد سـومـر، وأراه مـن بـيـن مـا أراه تـمـاثـيـل غـوديـا، أمـيـر لـغـش.
(4)  أعـني بـ "الـكـلّ الإنـسـاني" مـا يـكـمـن في أعـمـاق ذات كـلّ إنـسـان مـهـمـا تـغـيّـرت الأمـكـنـة والأزمـنـة.