jeudi 8 décembre 2016

الـفـنّـان فـرنـانـدو بـوتـيـرو وسـجـنـاء "أبـو غـريـب"




                              



الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري


إكـتـشـف الـعـالـم في عـام 2004 تـعـذيـب الـجـنـود الأمـريـكـان لـسـجـنـاء "أبـو غـريـب" قـرب بـغـداد، فـقـد أذاعـت مـحـطـة CBS تـحـقـيـقـاً تـلـفـزيـونـيـاً في أواخـر شـهـر نـيـسـان مـن ذلـك الـعـام، ونـشـرت صـحـيـفـة  The New Yorker  مـقـالاً لـسـيـمـور هـيـرش  Seymour Hersh  عـن ذلـك .
ثـمّ نُـشـرت عـلى صـفـحـات الأنـتـرنـت صـور رهـيـبـة كـان قـد الـتـقـطـهـا الـجـنـود (والـجـنـديـات) الأمـريـكـان الّـذيـن ارتـبـكـوا أعـمـال الـتّـعـذيـب بـأنـفـسـهـم . ونـظـر الـعـالـم بـذهـول إلى صـور هـذه الأعـمـال الـوحـشـيـة الـبـربـريـة، واكـتـفى بـالـشّـجـب والإسـتـنـكـار. وأعـلـنـت قـيـادة الـجـيـش الأمـريـكي أنّـهـا سـتـحـقـق في الأمـر ... ثـمّ حـدث مـا أنـسى الـعـالـم هـذه الأحـداث، واتـجـه الـنّـاس بـشـجـبـهـم واسـتـنـكـارهـم إلى أحـداث رهـيـبـة أخـرى، أو ألـهـتـهـم عـنـهـا مـشـاغـل الـحـيـاة. 

وقـرأ الـفـنّـان الـكـولـومـبي فـرنـانـدو بـوتـيـرو  Fernando Botero  مـقـال سـيـمـور هـيـرش  فـثـارت أعـمـاقـه، ولـكـنّـه لـم يـكـتـفِ بـالـشّـجـب والإسـتـنـكـار.

يـقـول بـوتـيـرو : "هـزنّي مـا فـعـلـه الأمـريـكـان بـسـجـنـائـهـم، فـالـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة تـظـهـر نـفـسـهـا كـمـدافـعـة عـن حـقـوق الإنـسـان، وهـذا مـا زاد مـن غـضـبي. كـنـت في الـطّـائـرة عـنـدمـا قـرأت الـمـقـال وأخـرجـت ورقـة وقـلـمـاً وبـدأت أرسـم. وعـنـدمـا عـدت إلى مـرسـمي أكـمـلـت إسـقـاط غـضـبي بـالـزّيـت عـلى لـوحـات الـقـمـاش مـحـاولاً أن أتـصـور مـا حـدث وأصـوّره". 
 

                                           
وكـمـا فـعـل بـابـلـو بـيـكـاسـو في 1937  عـنـدمـا قـرأ عـن قـصـف الـنّـازيـيـن الألـمـان والـفـاشـيـيـن الإيـطـالـيـيـن لـمـديـنـة غـرنـيـكـا في بـلاد الـبـاسـك، شـرق إسـبـانـيـا، وحـوّل ثـورتـه الـنّـابـعـة مـن الأعـمـاق إلى لـوحـة واسـعـة الـمـقـايـيـس رسـمـهـا بـالأبـيـض والأسـود وأسـمـاهـا "غـرنـيـكـا  Guernica"،  فـقـد أراد فـيـرنـانـدو بـوتـيـرو هـو الآخـر أن يـحـوّل ثـورتـه الـدّاخـلـيـة ضـدّ الـتّـعـذيـب إلى مـجـمـوعـة مـن الـلـوحـات.
وفي عـام 2005  عـرض فـرنـانـدو بـوتـيـرو  أكـثـر مـن 85 لـوحـة زيـتـيـة و 100 رسـم عـن عـمـلـيـات الإهـانـات والـتّـعـذيـب الّـتي ارتـكـبـهـا الـجـنـود الأمـريـكـان الـمـسـلـحـون مـع كـلابـهـم ضـدّ سـجـنـاء عـراة. 
 




عـرضـت هـذه الأعـمـال الـفـنّـيـة أولاً في أوربـا قـبـل أن يـراهـا مـحـبـو الـفـنّ في الـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة عـام 2007 في مـديـنـتـيـن مـن بـيـنـهـمـا واشـنـطـن. 

وقـد قـرر الـفـنّـان أن لا يـعـرض أي رسـم أو أيّـة لـوحـة مـن هـذه الـمـجـمـوعـة لـلـبـيـع، بـل يـهـدي لأي مـتـحـف كـان مـا يـطـلـبـه مـنـهـا عـلى أن تـعـرض ولا تـبـقى مـحـفـوظـة في سـراديـبـه. وقـال إنّ الـمـكـان الـمـثـالي لـهـا لا بـدّ أن يـكـون لـه عـلاقـة بـالأحـداث : الـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة أو بـغـداد.
وأكّـد فـرنـانـدو بـوتـيـرو مـن جـديـد انّـه لا يـدّعي أن يـسـجّـل الأحـداث كـمـا جـرت وإنّـمـا كـمـا تـصـوّر أن تـحـدث عـنـدمـا تـجـهـد كـائـنـات بـشـريـة أنـفـسـهـا في ابـتـكـار طـرق جـديـدة لـبـث الـرّعـب في قـلـوب كـائـنـات بـشـريـة أخـرى وتـعـذيـبـهـا. 

ولـم يـكـن يـريـد لـعـمـلـه أن يـكـون سـيـاسـيـاً، خـاصـة وأنّـه هـو نـفـسـه يـقـضي جـزءاً مـن وقـتـه في الـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة، ولـكـنّـه أراده إنـسـانـيـاً بـالـمـعـنى الـبـسـيـط لـلـكـلـمـة أي كـيـف يـمـكـن لـشـراسـة إنـسـان أن تـدفـعـه لـيـعـذّب إنـسـانـاً آخـر.


ولـكي نـفـهـم الأسـلـوب الـفـنّي الّـذي اسـتـعـمـلـه فـرنـانـدو بـوتـيـرو في رسـم لـوحـاتـه، عـلـيـنـا أن نـتـوقـف هـنـا قـلـيـلاً لـنـتـكـلّـم عـن الـفـنـان نـفـسـه وعـن مـسـيـرتـه قـبـل أن يـبـدأ مـشـروعـه هـذا.

فـرنـانـدو بـوتـيـرو :
 
ولـد فـرنـانـدو بـوتـيـرو سـنـة 1932 في كـولـومـبـيـا، أمـريـكـا الـجـنـوبـيـة. (أي أنّـه كـان في الـثّـانـيـة والـسّـبـعـيـن مـن عـمـره عـنـدمـا بـدأ بـرسـم لـوحـاتـه عـن "أبـو غـريـب"). ولـد في عـائـلـة مـتـواضـعـة، ومـات أبـوه صـغـيـراً، فـتـكـفّـلـه عـمّـه. وقـد تـشـبّـع مـنـذ طـفـولـتـه بـمـعـالـم مـديـنـتـه مـدلـيـن  Medellin  الّـتي شـيّـدت حـسـب الأسـلـوب " الـبـاروكي" (بـصـيـغـتـه الأمـريـكـيـة الـجـنـوبـيـة).  وصـاغ هـذا الـفـنّ الـمـتـبـجـح الّـذي وصـل إلى درجـة كـبـيـرة مـن الـمـبـالـغـة في الـتّـفـخـيـم (مـنـذ نـشـوئـه في الـقـرن الـسّـادس عـشـر) ذائـقـتـه الـفـنّـيـة.
 
وبـعـد أن حـصـل فـرنـانـدو عـلى الـبـكـلـوريـا، أدخـلـه عـمّـه في مـدرسـة لإعـداد مـصـارعي الـثّـيـران، وبـقي فـيـهـا سـنـتـيـن. ولـكـنّ هـوايـتـه الّـتي تـمـلّـكـت عـلـيـه لـبّـه كـانـت الـرّسـم.
 
ونـشـرت لـه جـريـدة مـحـلّـيـة أوّل رسـومـه عـنـدمـا كـان في الـسّـادسـة عـشـرة مـن عـمـره، ثـمّ اسـتـمـرّ يـنـشـر رسـومـه. ووفـر مـا ربـحـه مـنـهـا لـيـدفـع تـكـالـيـف الـتّـسـجـيـل في مـدرسـة فـنّ. وبـعـد أن قـضى فـيـهـا عـامـاً، إشـتـغـل في تـصـمـيـم الـدّيـكـورات، ثـمّ انـتـقـل في عـام 1951 إلى الـعـاصـمـة بـوغـوتـا، وأقـام فـيـهـا أوّل مـعـارضـه الـشّـخـصـيـة.
 
وفي الـعـام الـتّـالي، 1952 سـافـر مـع فـنـانـيـن آخـريـن إلى إسـبـانـيـا. إلى بـرشـلـونـة أوّلاً ثـمّ إلى مـدريـد الّـتي تـابـع فـيـهـا دروسـاً في الـفـنّ. وبـعـد عـدّة أشـهـر عـاد إلى بـوغـوتـا وأقـام فـيـهـا مـعـرضـاً ثـانـيـاً.
وفي 1953 سـافـر فـرنـانـدو بـوتـيـرو  إلى بـاريـس، وقـضى أغـلـب أوقـاتـه في مـتـحف الـلـوفـر يـتـأمّـل الأعـمـال الـفـنّـيـة ويـنـسـخـهـا، ثـمّ ذهـب إلى مـديـنـة فـلـورنـسـا في إيـطـالـيـا الّـتي أقـام فـيـهـا حـتّى عـام 1954 يـدرس روائـع أعـمـال عـصـر الـنـهـضـة الإيـطـالي في الـقـرن الـخـامـس عـشـر.
 
وبـعـد أن رجـع إلى بـوغـوتـا وأقـام فـيـهـا مـعـرضـاً لأعـمـالـه الّـتي كـان قـد نـفّـذهـا في أوربـا فـوجئ بـالـفـشـل الـذّريـع لـمـعـرضـه، وأدرك أنّـه جـلـب مـعـه أسـلـوبـاً غـريـبـاً لا يـتـذوّقـه أهـل بـلـده. وبـدأ في لـوحـتـه "طـبـيـعـة جـامـدة لآلـة الـمـانـدولـيـن الـمـوسـيـقـيـة" (1957) أسـلـوبـاً جـديـداً اسـتـمـرّ فـيـه حـتّى الآن وعـرف بـه. 

 


 
ويـتـمـيّـز هـذ الأسـلـوب الّـذي لا يـنـتـمي إلى أيّـة حـركـة فـنـيّـة مـعـروفـة بـتـضـخـيـم أحـجـام الأشـخـاص والأشـيـاء الّـتي يـرسـمـهـا و"نـفـخـهـا". 

وهـو يـذكـر أنّـه تـأثـر فـيـه بـأسـلـوب رسـوم ومـنـحـوتـات الـفـنـون الأمـريـكـيـة الأصـلـيـة قـبـل وصـول كـريـسـتـوف كـولـومـبـس والأوربـيـيـن الّـذيـن غـزوا الـقـارة الأمـريـكـيـة جـنـوبـهـا وشـمـالـهـا بـعـده. وتـأثّـر كـذلـك بـالـفـنـون الـشّـعـبـيـة الّـتي كـان يـمـارسـهـا الـنّـاس الـبـسـطـاء حـولـه.

ولا شـكّ في أنّـه حـاول أن يـجـد أسـلـوبـاً يـنـاسـب ثـقـافـتـه بـعـد أن تـعـرّف عـلى الـفـنّ الأوربي ولاحـظ أنّ قـوانـيـن تـصـويـر الـجـسـد في الـفـنّ الأوربي الـكـلاسـيـكي (الّـتي جـاءت مـن الإغـريـق ومـقـلـديـهـم الـرّومـان) لـم تـكـن تـنـاسـب عـاداتـه الـتّـصـويـريـة ولا مـعـايـيـره الـجـمـالـيـة. وكـان مـن الـصّـعـب عـلـيـه أن يـطـبّـق عـلى نـاس بـلـده مـقـايـيـس مـثـالـيـة لـلـجـسـد الـمـمـشـوق الـمـسـتـطـيـل الـعـضـلات وهـم مـثـلـه يـفـضّـلـون الأجـسـاد الـمـمـتـلـئـة الّـتي تـوحي بـالـصـحـة والـعـافـيـة. ورسـم فـرنـانـدو بـوتـيـرو الأجـسـام حـسـب مـعـايـيـر أهـل بـلـده الـجـمـالـيـة، ولـكـنّـه بـالـغ في تـضـخـيـمـهـا لـيـكـون لـه أسـلـوب خـاصّ يـعـرف بـه.
 
وقـد بـدأ بـالـنّـحـت في عـام 1963، واسـتـعـمـل في مـنـحـوتـاتـه نـفـس أسـلـوب رسـومـه ولـوحـاتـه. ويـعـتـبـر فـرنـانـدو بـوتـيـرو واحـداً مـن أشـهـر الـفـنّـانـيـن الّـذيـن مـا زالـوا عـلى قـيـد الـحـيـاة، فـقـد أقـيـمـت لـه مـعـارض في أكـثـر مـن خـمـسـيـن مـديـنـة مـهـمـة في كـلّ أرجـاء الـعـالـم، وتـجـاوزت أسـعـار لـوحـاتـه ومـنـحـوتـاتـه مـلايـيـن الـدّولارات.
 

لـمـاذا لـم تـصـبـح لـوحـات سـجـنـاء "أبـو غـريـب" غـرنـيـكـا جـديـدة ؟
 
رغـم أنّ نـقـاد الـفـنّ ومـؤرخـيـه يـذكـرون مـجـمـوعـة لـوحـات فـرنـانـدو بـوتـيـرو ورسـومـه عـن سـجـنـاء "أبـو غـريـب" عـنـدمـا يـكـتـبـون عـنـه، فـإنّ هـاوي الـفـنّ الـعـادي لا يـجـدهـا في الـمـتـاحـف الـمـعـروفـة،  ولا تـتـاح لـه الـفـرصـة لـرؤيـتـهـا في مـعـارض فـنّـيـة. وأصـارحـكـم الـقـول إنـني أنـا نـفـسي لـم أرَهـا إلّا في صـور الـتـقـطـت لـهـا. 
 



فـلـمـاذا لـم تـلاقِ ولـو جـزءاً مـن الـنّـجـاح الّـذي لاقـتـه لـوحـة بـابـلـو بـيـكـاسـو : "غـرنـيـكـا" ؟
هـنـاك أوّلاً الـوضـع الـسّـيـاسي والـثّـقـافي، فـقـد رسـم بـيـكـاسـو لـوحـتـه خـلال الـحـرب الأهـلـيـة الإسـبـانـيـة الّـتي دارت بـيـن أنـصـار الـجـمـهـوريـة الـتّـقـدمـيـة وقـوات الـجـنـرال فـرانـكـو الـفـاشـيـة.
وفي نـيـسـان 1937، قـصـفـت مـجـمـوعـة مـن الـطّـائـرات الألـمـانـيـة والإيـطـالـيـة مـديـنـة غـرنـيـكـا في بـلاد الـبـاسـك، في شـرق إسـبـانـيـا. وكـانـت واحـدة مـن الأعـمـال الـتّـخـريـبـيـة الّـتي أوصـلـت الـجـنـرال فـرانـكـو إلى الإنـتـصـار وإسـقـاط الـجـمـهـوريـة بـمـسـاعـدة هـتـلـر ومـوسـولـيـني.  

وقـد حـدث هـذا في أوربـا، وإن كـان ذلـك قـبـل بـدايـة الـحـرب الـعـالـمـيـة الـثّـانـيـة. وكـان الـرأي الـعـام يـسـانـد أنـصـار الـجـمـهـوريـة الإسـبـانـيـة. وشـارك عـدد مـن الـمـثـقـفـيـن في الـقـتـال في صـفـوف الـجـمـهـوريـيـن مـن أمـثـال الـكـاتـب الـبـريـطـاني جـورج أورويـل أو الـكـاتـب الـفـرنـسي أنـدريـه مـالـرو (الّـذي أصـبـح بـعـد ذلـك وزيـر ثـقـافـة الـجـنـرال ديـغـول).
ولـهـذا سـانـد الـمـثـقـفـون لـوحـة غـرنـيـكـا الّـتي عـرضـت في نـفـس الـعـام، 1937 في جـنـاح الـجـمـهـوريـة الإسـبـانـيـة في "الـمـعـرض الـعـالـمي لـلـفـنـون والـتّـقـنـيـات في الـحـيـاة الـحـديـثـة" الّـذي أقـيـم في بـاريـس.
وبـعـد أن عـرضـت الـلـوحـة في عـدد مـن الـمـدن الأوربـيـة انـتـقـلـت إلى نـيـويـورك وبـقـيـت في مـتـحـف الـفـنّ الـحـديـث لـهـذه الـمـديـنـة The MoMA بـعـد أن انـدلـعـت الـحـرب الـعـالـمـيـة الـثّـانـيـة في أوربـا. وقـرر بـيـكـاسـو أن تـبـقى لـوحـتـه في الـمـتـحـف الـنّـيـويـوركي إلى أن يـتـغـيـر الـوضـع الـسّـيـاسي في إسـبـانـيـا ويـسـقـط الـجـنـرال فـرانـكـو. 

وقـد نـقـلـت الـلـوحـة فـعـلاً إلى مـدريـد عـام 1981 بـعـد وفـاة الـجـنـرال فـرانـكـو وتـتـويـج خـوان كـارلـوس مـلـكـاً دسـتـوريـاً عـلى رأس الـدّولـة الإسـبـانـيـة. وبـهـذا أصـبـحـت الـلـوحـة في أذهـان الأوربـيـيـن رمـزاً مـن رمـوز الـتّـخـلـص مـن بـقـايـا الـحـرب والـعـودة إلى الـدّيـمـقـراطـيـة.

أمّـا لـوحـات فـرنـانـدو بـوتـيـرو عـن سـجـنـاء "أبـو غـريـب" فـقـد عـرفـت شـهـرة مـؤقـتـة نـتـيـجـة سـخـط الـنّـاس في الـغـرب واسـتـنـكـارهـم لـعـمـلـيـات الـتّـعـذيـب الّـتي أثـارتـهـا الـصّـور الـرّهـيـبـة الّـتي نـشـرت عـنـهـا وخـاصـة عـلى الأنـتـرنـت.  
 
وكـان سـبـب هـذا الـسّـخـط جـرح انـفـتـح في كـبـريـائـهـم لأنّـهـم كـانـوا يـعـتـقـدون أنّ الـتّـعـذيـب مُـحي واخـتـفى تـمـامـاً في "الـديـمـقـراطـيـات الـحـرّة"، وأنّـه كـان وقـفـاً عـلى "الأمـم الـمـتـوحّـشـة"، فـغـالـبـيـتـهـم الـمـطـلـقـة لـم تـكـن تـعـرف شـيـئـاً عـن هـؤلاء الـسّـجـنـاء ولا حـتّى أيـن يـقـع الـعـراق جـغـرافـيـاً. فـلـم يـكـن اسـتـنـكـارهـم تـعـاطـفـاً مـع الـمـعـذبـيـن بـل غـضـبـاً عـلى أفـراد مـارسـوا أعـمـالاً تـشـوه الـصّـور الـمـثـالـيـة الّـتي لـديـهـم عـن الـدّور الـتّـاريـخي لـ "ديـمـقـراطـيـاتـهـم الـحـرّة" في إخـراج الـعـالـم مـن "الـتّـوحـش" وإيـصـالـه إلى "الـحـضـارة". ولـهـذا انـشـغـل الـنّـاس عـن هـذا الـحـدث بـسـرعـة وألـهـتـم عـنـه أحـداث أخـرى سـكـبـتـهـا عـلـيـهـم مـحـطـات الإذاعـة والـتّـلـفـزيـون وغـرقـوا فـيـهـا. 

ولأنّ فـرنـانـدو بـوتـيـرو لـم يـكـن لـه مـسـانـدون سـيـاسـيـون و"ثـقـافـيـون" يـدعـمـونـه ويـمـكـنـه الإعـتـمـاد عـلـيـهـم فـقـد سـقـطـت لـوحـاتـه ورسـومـه عـن سـجـنـاء "أبـو غـريـب" في الـنّـسـيـان، ولـم يـبـق مـنـهـا إلّا صـور لـبـعـضـهـا عـلى الأنـتـرنـت وإلّا بـعـض مـقـالات قـصـيـرة نـشـرت عـنـهـا عـنـدمـا عـرضـت بـيـن 2005 و 2007. ولـم يـنـظّـم مـعـرض واحـد لـهـا، حـسـب عـلـمي، في الـسّـنـوات الأخـيـرة.

ويـمـكـنـنـا أن نـذكـر أيـضـاً أسـبـابـاً فـنّـيـة لـقـلـة الـنّـجـاح الّـذي لاقـتـه لـوحـات فـرنـانـدو بـوتـيـرو عـن سـجـنـاء "أبـو غـريـب" مـقـارنـه بـلـوحـة بـيـكـاسـو :
 
 فـقـد كـان بـيـكـاسـو في الـسّـادسـة والـخـمـسـيـن مـن عـمـره عـنـدمـا رسـم لـوحـتـه "غـرنـيـكـا"، أي بـعـد ثـلاثـيـن عـامـاً عـلى رسـم لـوحـتـه "دمـوازيـلات أفـنـيـون" الّـتي تـعـتـبـر أولى لـوحـات الأسـلـوب الـتّـكـعـيـبي، والّـتي تـبـعـهـا بـمـجـمـوعـة مـن الـلـوحـات الـحـديـثـة الّـتي رسّـخـت مـكـانـتـه كـأحـد أركـان الـتّـجـديـد في الـفـنّ الأوربي. 

وقـد أخـتـار لـلـوحـتـه "غـرنـيـكـا" مـوضـوعـاً مـأسـاويّـاً : سـكـان الـمـديـنـة الـعـزّل الّـذيـن سـقـطـت فـوقـهـم قـنـابـل مـحـقـتـهـم ومـحـقـت أغـلـب أحـيـاء مـديـنـتـهـم بـلا ذنـب ارتـكـبـوه.
 
واخـتـار بـيـكـاسـو لـلـوحـتـه مـقـايـيـسـاً شـديـدة الـسّـعـة : حـوالي ثـلاثـة أمـتـار ونـصـف ارتـفـاعـاً عـلى حـوالي ثـمـانـيـة أمـتـار عـرضـاً، وأسـلـوبـاً اخـتـزالـيـاً تـخـلّـص فـيـه مـن كـلّ الـجـزئـيـات الـثّـانـويـة الّـتي يـمـكـنـهـا أن تـثـقـل تـركـيـب الـلـوحـة، ومـن الألـوان الّـتي تـلـهـيـنـا عـن الـدّخـول في أجـوائـهـا مـبـاشـرة، فـصـارت صـرخـة هـائـلـة مـدويـة تـلـفـنـا وتـعـصـف بـنـا مـن يـمـيـن الـلـوحـة إلى يـسـارهـا، يـمـتـزج فـيـهـا الـجـرحى بـالـقـتـلى بـالـهـاربـيـن، الـنّـاس والـخـيـل والـثّـيـران ... وتـرمـيـنـا أمـام الأم الـثّـكلى الـصّـارخـة آلامـاً تـحـمـل طـفـلهـا الـقـتـيـل ...

 

وقـد وقـفـت قـبـل أعـوام أتـأمّـل "غـرنـيـكـا" طـويـلاً في مـتـحـف الـمـلـكـة صـوفـيـا في مـدريـد. وكـان الـنّـاس حـولي يـنـظـرون إلـيـهـا بـصـمـت كـمـا لـو كـانـوا أمـام مـأسـاة تـحـدث أمـام أعـيـنـهـم، ثـمّ يـنـسـحـبـون بـبـطء وبـهـدوء ... 

أمّـا فـرنـانـدو بـوتـيـرو فـقـد اخـتـار أن يـجـزّأ عـمـلـه الـفـنّي عـن سـجـنـاء "أبـو غـريـب" إلى مـجـمـوعـة كـبـيـرة مـن الـرّسـوم والـلـوحـات، واخـتـار لـهـا أسـلـوبـه الـتّـشـخـيـصي الـكـلاسـيـكي الّـذي يـحـاول أن يـقـلّـد مـظـاهـر الأشـيـاء مـن احـتـرام الـمـنـظـور والأحـجـام والـضّـوء والـظّـل ... وطـبّـق فـيـهـا قـوانـيـنـه "الـجـمـالـيـة" ومـقـايـيـس الـجـسـد الـمـضـخّـم "الـمـنـفـوخ" الّـذي أضـفى عـلى الـسّـجـنـاء الـمـعـذبـيـن في بـعـض هـذه الـلـوحـات نـوعـاً مـن الـمـلامـح الـمـخـيـفـة الّـتي يـنـفـر مـنـهـا الـمـشـاهـد. ورسـم في بـعـضـهـا مـشـاهـد رهـيـبـة تـثـيـر في نـفـس الـنّـاظـر إلـيـهـا شـيـئـاً مـن الـتّـقـزز والإشـمـئـزاز، أي عـكـس الـتّـأثـيـر الّـذي أراده. 
 



وكـان بـيـكـاسـو إسـبـانـيـاً ورغـم ذلـك لـم يـصـوّر أهـل بـلـده الّـذيـن يـعـرفـهـم كـمـا هـم، في لـوحـتـه "غـرنـيـكـا"، وإنّـمـا اخـتـزلـهـم بـأسـلـوب شـديـد الـتّـجـديـد والإبـتـكـار إلى صـور ذهـنـيـة و رمـوز أثـارت في أعـمـاق مـتـأمّـلـيـهـا مـشـاعـر عـمـيـقـة، 

أمّـا بـوتـيـرو الّـذي لـم يـرَ ولا شـكّ كـثـيـراً مـن الـعـراقـيـيـن في حـيـاتـه، فـقـد اخـتـار أن يـصـورهـم تـصـويـراً تـشـخـيـصـيـاً ولـكـن بـمـقـايـيـسـه الـجـمـالـيـة الـمـضـخـمـة الـمـنـتـفـخـة، وهـو مـا لا يـنـاسـب مـعـذبـيـن يـمـكـن الـتّـعـاطـف مـعـهـم، ولا يـنـاسـب تـصـور الـجـمـهـور الـغـربي لـلـعـراقـيـيـن.
 

 

وهـنـاك سـبـب آخـر حـسـب رأيي، وهـو أنّ بـيـكـاسـو رفـع مـأسـاة قـصـف غـرنـيـكـا مـن اسـتـعـمـالـهـا الـسّـيـاسي ضـمـن صـراع بـيـن قـوّتـيـن مـتـقـاتـلـتـيـن لـيـوصـلـهـا إلى نـوع مـن الـتّـراجـيـديـا الإغـريـقـيـة، فـنـحـن لا نـرى إلّا الـمـسـحـوقـيـن الّـذيـن تـكـالـبـت عـلـيـهـم الأقـدار ولا يـمـكـنـنـا إلّا أن نـشـاركـهـم في آلامـهـم، 

أمّـا في لـوحـات بـوتـيـرو فـكـثـيـراً مـا نـرى الـجـلاّد والـضّـحـيـة. وهـمـا يـتـشـابـهـان في بـعـض الأحـيـان، مـمـا يـدفـع مـتـأمّـل الـرّسـم أو الـلـوحـة إلى الـتـسـاؤل عـن أسـبـاب الـتّـعـذيـب فـيـتـشـتـت تـأثـيـر الـعـمـل الـفـنّي عـلـيـه بـدلاً مـن أن يـتـركّـز لـيـثـيـر نـقـمـتـه عـلى الـظّـلـم.  
 


  
وقـد وصـلـت أنـا نـفـسي، بـعـد أن تـتـابـعـت أمـام عـيـنيّ أعـداد كـبـيـرة مـن صـور هـذه الـلـوحـات، إلى نـوع مـن الـتّـشـبّـع قـادني إلى الـمـلـل حـتّى ضـاع الّـذي شـعـرت بـه في الـبـدايـة وخـفـتـت شـعـلـة اسـتـنـكـاري، وحـلّ "الـتّـفـكـيـر والـتّـحـلـيـل" مـحـلّ "الإنـفـعـال الـتّـلـقـائي". 

ورغـم ذلـك تـبـقى رسـوم فـرنـانـدو بـوتـيـرو ولـوحـاتـه عـن سـجـنـاء "أبـو غـريـب" شـهـادات الإسـتـنـكـار الـوحـيـدة لـعـمـلـيـات الـتّـعـذيـب هـذه. ونـأمّـل أن تـشـاهـدهـا الأجـيـال الـقـادمـة بـعـد أن يـخـتـفى ذكـرهـا مـن وسـائـل الإعـلام الـحـديـثـة الّـتي تـتـراكـض فـيـهـا الأحـداث بـسـرعـة مـذهـلـة، تـدفـع الـجـديـدة مـنـهـا سـابـقـاتـهـا نـحـو غـيـاهـب الـنّـسـيـان.




©  حـقـوق الـنّـشـر مـحـفـوظـة لـلـدّكـتـور صـبـاح كـامـل الـنّـاصـري
      يـرجى طـلـب الإذن مـن الـكـاتـب قـبـل إعـادة نـشـر هـذا الـمـقـال.